باريس بودلير بقلم رشدي الماضي

مراسل حيفا نت | 08/10/2021
باريس بودلير
رشدي الماضي
اشتقّ دارسو شِعر شارل بودلير (1821 -1867) موضوعا وبُنية، من صخب باريس المدينة، حيث الصَّدمة تحايت الحداثة وتُعلن عنها في آن…
فالمدينة بهذا المعنى تُصبح أثراً لمدينة غير مسبوقة، تجعل من صدمة الشَّاعر متّكأ لخبرة جديدة، لكون هذه الصّدمة نتجت بسبب زحام هائل متجانس يُذكّر بجموع الأَنظمة المستبدّة، المُصَاغة من فئات وطبقات وآفاق مختلفة، تؤلّف كتلة غير مُوحَّدة على الإطلاق، حيث لا يملك بشر الزّحام شيئاً مشتركاً، ليُصْبح الاتّفاق الوحيد بينهم لا صوت له، ويدفع كلّ واحد منهم إلى التَّقوقع الذَّاتي، كي لا يُعطّل الحشد البشري عن مواصلة اندفاعِهِ…
طبعا، لا يَخْفى أنّ في مثل هذا التّقوقع أنانيّة سلبيّة، لأنّ الفرد فيها ينكمش على مصلحتِهِ، لِتُصْبح رفيقاً وحيداً له، وتضعه في تنافُس لاهت مع الآخرين، وهكذا لا يحاور إنسان الزّحام إلّا سرعتَهُ هو لا غير، فيردّ الآخرون بحركة سريعة تلبّي مصالحهم…
مثل هذا الفرد الأَناني، أَملى على النَّاقد الألماني والتربنيامين (1940-1892) أنْ يُميّز في الزّحام ألواناً ثلاثة من البشر:-
انسان الزّحام الباحث عن مكان ضيّق بين سُبْل المتدافعين، بهدف الوصول إلى مكان يعرفهُ، ثُمّ الإنسان المُتَبطّل الذي يهدر وقْتَهُ بلا هدف ولا غاية، ويليهِ الإنسان المتسكّع المُنْصرف إلى الملاحظة والمراقبة في شوارع تُغطّيها الأَقدام المتلاحقة، وإذا عدنا إلى شاعرنا بودلير، نرى أنَّهُ أراد أن يكون في مدينتِهِ الحديثة، والتي قطعت صِلَتها مع أخْرى قروسطوية، أن يكون، وهو يتفيّأ تَصَوّرَهُ الحداثي للعالم، تَصوّراً أقامَهُ فوق المثوارت والطبيعي والمألوف القديم، نعم!!! أراد أن يكون في باريسهِ هذه متسكّعاً نموذجيّا في زمن يطرد “السَّلاحف” والخُطى المُتمهّلة… ليظلّ مفتوناً بما ينفر منه، ومنجذباً الى ما يخيفهُ ويُروِّعه، مُتماشياً مع ما قاله الشَّاعر الكبير إدغار ألَن بو:- ” زحام المدينة الكبيرة، يثير الخوف والنّفور والفزع، فكل شيء همجي لا تمكن السَّيطرة عليه…
فما كان من بودلير إلّا أن يضيف بلغة أشدّ انفعالاً:” ماذا تكون مخاطر الغابة والبراري مقارنةً بالصَّدمات والنِّزاعات اليوميّة للحضارة؟!!!
حقّا، يدلّ هذا الإحساس المُشْبع بتشاؤم ثقيل بِكلمة “صدمة” يدلّ أنَّ هذا اللّقاء لم يكن شاعر
“أزهار الشَّر” مُهيّأ للقاء بهِ…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *