فَيْرُوزُ دُومِي- د. خالد تركي – حيفا

مراسل حيفا نت | 14/08/2010

نشأتُ، كما نشأ غيري من أبناء شعبي العربيِّ، على صوت فيروز الطَّروب كلَّ صباحٍ، وتحديدًا عَبْرَ أثير إذاعة دمشق، برنامج مرحبًا يا صباح، كما تعوَّدنا على سماعها في كلِّ عيدٍ وطنيٍّ أو دينيٍّ أو حفل زفافٍ، كما في أيِّ مناسبة سعيدة أو حزينة. لقد غنَّت لبيروت وبعلبك وبيت لحم والقدس ودمشق ومكَّة وبغداد وعمَّان والقاهرة..ولَم تُغَنِّ فيروز لأيِّ زعيمٍ عربيٍّ وهذا ما زاد تقدير وإعجاب المحبِّين لها.
كما غنَّت للحبِّ والعشقِ والمظلومين والمقهورين، غنَّت للطَّبيعة والرَّوابي، للعمَّال والفلاحين والحرِّيَّة، غنَّت لليل والنَّهار وتغنَّت بالصَّيف والشِّتاء والأمطار، غنَّت للتَّاريخ وأبطاله وتغنَّت بأمجاد الحضارة وصانعيها وشحنت قلوبنا بالأمل والعمل. غنَّت شعرًا وقصصًا وأدبًا عريقًا تعتزُّ به النُّفوس الأصيلة القابضة على جمرة اللغة العربيَّة. 
فيروز هي أوَّل من غنَّى لفلسطين وعاصمتها زهرة المدائن، وللاجئين والمشرَّدين، كما غنَّت لعودتهم، حيث كانت، وما زالت السَّبَّاقة المُمتَازة في حمل راية العودة. وقد تجسَّدت فلسطين بزهرة المدائن وجسر العودة ويا جسرًا خشبيًّا وأجراس العودة وسلامي لكم وراجعون..وكذلك تجسَّدت بضياع الصَّبيِّ شادي حيث "والتلج اجى وراح التلج عشرين مرة اجى وراح التلج" وما زال شادي صَبِيًّا ضائعًا بين الثُّلوج وما زلنا نبحثُ عنه ستِّين مرَّة ونيِّف "اجى وراح التلج"، ستُّون مرَّة ونيِّف سقط الثَّلج وذاب وفي كلِّ مرَّة ننتظر ذوبان الثَّلج كي يُبيِّن لنا المرج، لكنَّ الحقَّ ما انفكَّ ضائعًا كضياع شادي.

لقد اجتازت فيروز حدود عائلتها الضَّيِّقة، نهاد حدَّاد-الرَّحباني من لبنان، لتعبُر حدود الجغرافيا والتَّأريخ، إلى أوسع من حدود الوطن العربي لِتطأ قدماها أعلى السُّحُب وتُشِعَّ بنورها لتطفوَ على سناء الشُّهُب، وتكون جرمًا هائمًا وسابحًا دائمًا في سماء الكون. وأصبحت بذلك مَلِكَةَ الشَّعبِ ومُلْكَهُ، كما قال الشَّاعر داود تركي، في قصيدته "فَيْرُوزُ دُومِي" (ديوان ريح الجهاد):
فَيْرُوزُ يَا صَدَّاحَةَ العَرَبِ    وَبَدِيعَةَ الألْحَانِ والطَّرَبِ
نسمعُها متى شئنا، دائمًا، وبشوقِ ملهوفٍ، كأنَّنا نسمعها أوَّل مرَّةٍ، ومهما ظنَّ
المرء أنَّه ملمٌّ بمعرفة أغاني فيروز، كلماتٍ وألحانًا، يبقى غيرَ ذلك، لأنَّها كثيرة جدًّا، متنوِّعة المواضيع والمضامين والألوان، كقوس قزح في صباح يوم ماطر، يبعثُ الإعجاب والطَّمأنينة والسَّكينة في نفوس طلابِهَا..
لَم أنصِّب نفسي مدافِعًا عن فيروز لأنَّها لا تحتاج إلى دفاعي، ولَم أُعطِ ليَدي
الحقَّ لتكتُبَ سيرة فيروز لأنَّها أكبر من أن أكتُبَ عنها، لكنِّي وجدْتُ نفسي وأنامل كفِّ يدي اليُمنى، تمسك يراعي لِيَخُطَّ ما في نفسي من خلجات وما في قلبي من أحاسيس وما في وجداني من كلمات تعبِّر عن النَّفس المُحتاجة والتَّوَّاقة، لغذاء الرُّوح، لسماع أغاني فيروز، إكسير الحياة الدَّائم.
وما ضرَّني، هو ذلك النَّبأ الذي صدر من شمال وطني، وعلى لسان جزءٍ من عائلة الرَّحباني، يطلبون من العدالة أن تمنع شدوَ وصدحَ فيروز لأغانٍ من ألحان الأخوين رحباني، عاصي ومنصور، وأيُّ عدالة هي تلك، التي تمنع  الهواء عن البشر والماء عن الشَّجر، والضِّياء عن القمر، فهي الدَّواء لكلِّ داء، هي النَّقاء والصَّفاء. وأيُّ عدالة هي تلك التي تفصل الأخوين رحباني، عن بعضهما البعض، وُلِدَا شقيقين وَعاشا في بيت واحد في أنطلياس، لبنان، وتنفَّسا هواءً نقيَّا منعشًا وزكيًّا، وعمِلا جنبًا إلى جنب في وحدة واحدة وجسم واحد ذي رباط وثيق لا انفصام لهُ. وأيُّ عدالة هي تلك التي تأتي على السَّيَّاف، أن يُقسِّم الطِّفل إلى جزأين، حتَّى تصرخ الأمُّ الحقيقيَّة:"لا، لا تفعل ذلك، أعطِها الطَّفل كاملاً"، فلو كان سليمان الحكيم حيًّا لأخرسَ تلك الأصوات المناديَة بإسكات صوت فيروز
عن الغناء.
وبقي صوت الشَّعب من بيروت، سليمان الحكيم، يبثُّ من عاصمة لبنان أغاني فيروز من ألحان الأخوين رحباني، وعلى مدار ساعات البثِّ لعدَّة أيّام خلت، خلال الاعتصام الصَّامت هناك.
لن تصمت فيروز ولن تعتزل الغناء ولن تُعزَل عنه وسيبقى صوتها متألِّقًا وخالِدًا ما دام نور الشَّمس يتألَّق صباحًا في سماء المشرق ويغيب مساءً مختبئًا في غطاء المغرب. لذلك لن نسمح لهذا الصَّوت أن يُمنع أو يُسكت، لأنَّ فيروز دائمةٌ لنا بصوتها الرَّخيم وحسِّهَا الجميل وحضورها القويِّ والشَّريف، بروحهَا الطَّيِّبة وجسدهَا الميَّاس وخفقان قلبها الدَّافئ الذي نتمنَّى له دوام الصِّحَّة والعافية والعمر المديد كما قال المناضل، الشَّاعر، داود تركي في قصيدته "فَيْرُوزُ دُومِي" (ديوان ريح الجهاد):
دُومِي دَوَامَ القُدْسِ سَيِّدَةً   عَرَبِيَّةَ الرَّايَاتِ والطَّلَبِ
دُومِي لَنَا، لِلْعُرْبِ، مُطْرِبَةً    أَنْفَاسَنَا بِرَوائِعِ الأَدَبِ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *