تمهيد:-
جـَرت العادة المحلّية في مدينة "سيينا" الإيطاليّة العريقة والجميلة, منذ أكثر من 700 عام, بتنظيم سـِباق خـيل مرّة كل سنة, على مدى يومين متتاليين في أوائل شهر تموز. يسمّى هذا السباق ال-"باليو لـسيينا"
Palio of Siena)). إنّ سباق الخيل يجري على طول ساحة مدينة "سيينا" المميّزة جدا, التي على شكل صـَدَفـَة (أو محارة) واسعة. ويجري السباق في يوم عيد السيدة مريم العذراء في المدينة, و يحصلُ الفائز في السباق (هو وسكان الحارة التي يمثّلها) على جائزة هي عبارة عن صورة زيت فاخرة كبيرة مرسومة على قطعة قماش من الحرير, يـُصمّمها فنان إيطالي-الجنسيّة معروف وقدير. لا يوجد في كل أنحاء إيطاليا, في الواقع سباق خـَيل أكثر شهرة وأكثر قدسـيّة من سباق "الباليو". وقد جـَرَت العادة أيضا في بلديّة سيينا أن يتم اختيار الفنان مصمّم الجائزة من غير سكان البلد منذ السبعينات من القرن العشرين. وقد صـمّم الصورة في الماضي فنانون كبار أمثال ريناتو غوستو, وفيرناندو بوتيرو من كولومبيا إيطاليا. ولـِشـُهرة السـِباق الكبيرة, تمّ دمج وتصوير سِباق خـَيل "الباليو", بشكل واسع, في مشاهد بداية فيلم جيمس بوند المثير الأخير: "قطرة من العَزاء!"
(1).jpg)

A quantum of Solace"".
كما يحملُ كاتب هذه السطور ذكريات جميلة لـِساحة "سيينا" المميّزة, فقد تجوّل وعائلته ومجموعة أصدقاء في تلك الساحة الجميلة, في شهر تموز قبل بضع سنين, وجلسَ في إحدى مقاهـيها الرائعة, لكي يحتسي قهوة "الإسبرسو" الإيطاليّة القويّة, وهو يتصفّح صحيفة "الهيرالد تريبيون العالمية" ويتمتّع بمنظر الساحة المعماري المميّز جدا, بانتظار كان قد طال للعائلة وللأصدقاء ليعودوا من جولة شراء مكثّف, قاموا بها في أسواق المدينة. وقد امتنع (مـُكرها لا بطلا), وهو يحتسي القهوة الممتازة, من تناول قطعة كعكة شوكولاطة إيطالية, واكتفى بقطعتىن من "البسوكويت" الإيطالي القاسي (كالخبز الإيطالي الذي ينفع أيضا لطرد السارقين ليلا!).
سٍباق خـَيل شهير, وصراع على جائزته المـُقدّسة!
في هذه السنة بالذات, قبل حوالي أسبوعين ونيّف, قامت الصحف اليمينيّة الإيطالية القطرية, مثل صحيفة "لا-ناسيونا", وصحيفة "لا-بادانيا" (ومنها حتى صـُحف أشباه فاشيـّة), بشنّ عاصفة من الهجوم الأرعن, على بلديّة سيينا وعلى رئيسها بالذات السيّد ماوروتسيو سينني, وطالبتهما بشدّة إلغاء الجائزة!
إذ لأوّل مرّة في تاريخ السباق العريق كلّه, تمّ اختيار فنّان مـُهاجر عربي لبناني مـُسلم, عمره 46 عاما, يحمل الجنسيّة الإيطاليّة منذ العام 1984 لكي يرسم لوحة جائزة الباليو!! والذي أثار حفيظة الصحف اليمينيّة هو أن صورة "الباليو" التي خطّتها ريشة الفنان لبناني الأصل العربي علي حسّون كانت صورة السيّدة مـَريم العذراء, امرأة ذات ملامح عربيّة, وعلى يمينها القديـس جورج كـَفارس مغوار يعتمرُ حطّة بيضاء وسوداء, وفي مركز الصورة مباشرة فوق العذراء المقدّسة يظهر الصليب المسيحيّ وعلى يمينه صورة الهلال العربي-الإسلاميّ, وإلى يساره صورة نجمة-داود اليهودية. وأمّا عنوان الصورة مكتوب بأحرف عربيّة واضحة, بالبنط العريض "سورة مريم". (السورة رقم 19 في القرآن الكريم. أنظر الصورة المُرفقة). فكتب محررو الصحف اليمينيّة التي تجتاحها على ما يبدو ظاهرة "الإسلامو-فوبيا" (الخوف من الإسلام), كما تجتاح بعض دول أوروبية مؤخرا: "أيدي الإسلام تقبضُ على مدينة سيينا!". وفي صحيفة "لا-بادانيا" كتب محرّر يجهل تماما بأمور المسيحيّة التعليق التالي: "كيف ستـدخُل صورة امرأة ذات ملامح غير مسيحية (نسبة لصورة السيدة العذراء ذات الملامح العربيّة في الباليو! هـ.ع.) كنيسة سيينا لإجراء رسوم تقديس جائزة السباق؟!" اوَلم يقرأ محرّر هذه الوريقة "الفطين", في الأناجيل المسيحيّة عن سيرة حياة السيدة مريم العذراء, وهي تجوب شوارعً مدينة الناصرة وفي بيت لحم مع صبيها الصغير السيد المسيح؟ فأيـّة ملامح ستكون لوجه السيدة مريم العذراء بالذات؟؟؟ أيـّة ملامح بالضبط؟ مـَلامح نساء الجنس الآري مثلا, بأعين زرقاء!؟
وبعد العاصفة الإعلاميّة اليمينية الفاشيّة (إذ أنّ كل تلك الصحف يملكها حزب "التحالف الشمالي الإيطالي" الذي يسعى إلى منع الهجرة كليا إلى إيطاليا) سأل الصحفيون الفنان اللبناني القدير ذي الجنسيّة الإيطاليّة, عليّ حسون عن معنى ومغزى صورته المثيرة للجدل فأجاب قائلا:" أولا, إنني سعيد جدا أنّ بلدية سيينا اختارت صورتي لجائزة الباليو من بين صور عشرات الفنانين الإيطاليين! ثانيا, الباليو الذي رسمتـُه يعبّر عن الروحانيات بشكل عام, ويصبو إلى التقاء الديانات الثلاث أحاديّة-الإله, المسيحية واليهودية والإسلام, الأمر الذي يجعلنا جميعا نتخطّى حدود إيماننا معا ً!" وعندما تهافت الصحفيون في ال-26 من حزيران الأخير, إلى قاعة بلديـّة سيينا في مؤتمر صحفي صاخب, لكي يواجهوا رئيس البلدية وإدارة البلدية بأسئلتهم الكثيرة عن إمكانيات إلغاء محتمل للجائزة أجابهم رئيس البلديّة "ماوروتسيو سٍينني" بكل هدوء ما يلي: "لقد اخترنا صورة الفنان علي حسّون لقيمتها الفنية فحسب. إذ أنّ فن السيد حسون تجلّى أمامنا كفنّ عريق راق وحضاري, يحملُ تعابيرا فنية عالية ورائعة والتي من السهل التمتّع بها! الجائزة اختيرت بالإجماع في المجلس البلديّ ولن نتراجع عن قرارنا هذا حتى لو طالبنا ذلك رئيس الحكومة بذاته!"
سـِباق الخيل الشهير, والركض نحوَ جائزة الفنّان علي حسّون:-
تمّ سباق الخيل في ساحة سيينا, يومي الجمعة والسبت الماضيين, تماما كما جرت العادة منذ 700 عام ونيّف. وكانت الجائزة, صورة علي حسّون الفنيّة, في كل فترة السباق معلّقة ترفرفُ عاليا في قلب ساحة سيينا المميّزة. وعند نهاية السباق أُعلنَ الفائز من حارة الكونترادا (الحارة رقم 17 في مدينة سيينا) فقفز سكان الحارة فوق الحاجز الذي يفصل الصورة-الجائزة واختطفوا سعداء فرحين قطعة القماش الحريريّة ووضعوها على الفرس الفائزة لكي يجوب الفارس الفائز أنحاء مدينة سيينا حاملا معه لأول مرة في تاريخ السباق لوحة فنان عربي لبناني الأصل, إيطالي الجنسية هو الفنان علي حسّون! وقد سأل الصحفيون الفارس الفائز فرانسيسكو بارتالي عن مغزى الجائزة التي حصل عليها وعن والعاصفة التي أثارتها حولها فأجابهم:" إننا لا نهتمّ حقا بالصورة المرسومة". وأكمل: "إنّ ما يهمّ سكان حي الكونترادا الفائز, هو أننا نجحنا الفوز بالسباق وخسر أمامنا كل الأحياء الأخرى في المدينة! وحتى لو كانت الجائزة عبارة عن صورة فارغة خالية تماما من قطرة زيت واحدة, لكنا سنفرح بالجائزة! لا أعلم لماذا أنتم الصحفيون تسعَون دائما إلى تعقيد الأمور البسيطة؟!" في هذا التقرير الصحفي العالمي في صحيفة الهيرالد التريبيون لم يجد على ما يبدو الصحفي الإيطالي أيّة أهميّة في تحديد الأحزاب التي تشكّل مجلس بلديّة "سيينا". فأكملتُ تقريره, وفي بحث سريع أجريتـُه في محرّك "جووجل" عن أحزاب الإئتلاف البلدي الحاليّ في مجلس بلديّة سيينا وجدتُ الأحزاب التالية وفق الترتيب التالي: حزب البيئة-والخُضُر (حزب رئيس البلديّة), الحزب الديموقراطي السييني, و ……….. الحزب الشيوعي الإيطالي, أو كما وجدته في جوجل: (il Partito dei Comunisti Italiani) ومن ثمّ أيضا الحزب الشيوعي الإيطالي الثاني il Partito della Rifondazione Comunista! (لمن لا يعلم الحزب الشيوعي الإيطالي منقسم حاليا, للأسف, إلى حزبين).
_bmp.jpg)
سـِباق الدراجات الهوائية الدولي الأوّل في حيفا:-
تجري في هذه الأيام في مدينة حيفا احتفالات افتتاح سباق الدرّاجات الدولي, الذي كلّف ميزانية البلدية أموالا طائلة. إنّ هذا السباق هو الأوّل من نوعه في حيفا ولا يمت بأية صلة بالقداسة. وهنا تبادر إلى ذهنيّ فورا السؤال البسيط التالي: "ماذا لو كانت الجائزة التي ستوزّع على فائز السباق في حيفا هي من إبداع فنان رسّام عربي, مثل الرفيق عبد عابدي, وجيء بالجائزة إلى المجلس البلدي الحيفاوي لكي يصادق عليها؟ ماذا كان سيحدُث بالضبط؟! لكانت بالتأكيد ممثّلة حزب ليبرمان ستزعق وتنعق من على منصّة نواب الرئيس ضد هذا القرار, وستدّعي فورا أنّ الفنان عبد عابدي كان قد شارك "بكل وقاحة" في المظاهرة ضد "تساهال شيلانو" في حربه الوحشيّة البربريّة على غزّة, ولا يجوز للمجلس البلديّ أن يمنح راتبا من ميزانيته لفنان عربي يتظاهر ضدّ الدولة! (لقد أغلق المجلس البلديّ الحيفاوي مؤخرا بأغلبية ساحقة, مطعما لأنه لم يستقبل جنديا بزيّه العسكريّ!). كما كان على الأرجح سينضمّ إليها بعض النواب المتدينين, لأنّ رمز الهلال قد بانَ في طرف كأس-جائزة السباق (أو هكذا خـُيّل لهم!). وعلى الأرجح أنّ الجائزة التي صمّمتها أيدي فنّان عربي فلسطيني كان أجداده في بلادنا قبل قيام الدولة (بعكس الفنّان علي حسون الذي هاجر إلى إيطاليا), ذي الجنسية الإسرائيليّة, لن تفوز بأغلبيّة تصويت نواب المجلس البلديّ. أو قد تفوز بأغلبيّة ضئيلة (بشرط حذفِ صورة الهلال منها أو صورة الصليب فيها!).
خاتـٍمة و خاطرة لا بدّ منها:
كم أودّ, أرغبُ وأعشق, أن أزورَ مرّة ثانية ساحة مدينة "سيينا" الإيطاليّة التاريخيّة الجميلة التي على شكل صـَدَفة ذات غلاف قوي يحميها منذ أعوام عديدة من الفاشيّة الموسولينيّة, لكي أشرب القهوة الإيطاليّة الممتازة في إحدى مقاهيها, وأقضمَ بسكويتها القاسي, وأنا أنتظرُ عائلتي وأصدقائي لكي ينهـون جولة شراءهم الثانية!
وسأصافحُ, بين الرشفةِ والأخرى, مواطنين عاديين من أهل سيينا الطيبين وهم يتجولون في ساحتهم الفسيحة, وأقول لهم: "يا أهل "سيينا", أحملُ لكم معي من مدينة حيفا, تحيـّة أُمـميّة حارّة من قلبِ المجلس البلدي, ومن قلب حزبيَ الشيوعي وجبهتي الواحدة, ومن كل أفراد أبناء شعبي! أحبـُّكم, يا أهلَ سيينا,…. أحبـُّكم لو تعرفون كم!"
خاطرة:- لو رسمَت ريشة علي حسون الهلالَ في لوحة الباليو لكي يتقاطع في آخره مع الصليب الشرقي, لحصَلت بالتأكيد على صورة تشبه إلى حدّ ما المنجـَل (بهلالـِه!) والمطرقة (بصليبها!), ذكرى للشيوعيين الإيطاليين الذي حاربوا وقـُتلوا في حربهم ضدّ الفاشيّة الموسولينيـّة. أتمنى لو تتحوّل كلماتُ مقالتي كلها هذه بقدرة قادر, بعد أن يقرأها القارئ, إلى باقة ورد جميلة, توضَع بخشوع وخنوع,على قبور كل الشيوعيين من أهل "سيينا" الذين قـُتلوا في الحرب العالميّة الثانية!
نهاية.
.jpg)




