حيفا خبّئيني في عينيكِ لأغفوَ فيهما إلى الأبد

مراسل حيفا نت | 02/10/2018

حيفا خبّئيني في عينيكِ لأغفوَ فيهما إلى الأبد

نداء نصير

أصل الحكاية…
“كدتُ أنسى وأنا أعبرُ شارع يافا العريق في حيفا قواعد السير وقوانينه، حتّى كادت تدهسني سيّارة لم ألتفت إليها، وما كان عليها أن تقفَ، وأنا في خضمّ معركتي الجنونية في قلب ذاك الشارع. شتمني سائقُ السيّارة وقد علّق الشتيمة حتّى وصلتْ إلى جدّ جدّي..
ذكرياتٌ عبرتْ من أمامي وصورٌ ومشاهدُ لفّتني في بَرد شباط، عيوني كلُّها محدّقةٌ شاخصةٌ بالشوارع والمباني العريقة، والأشجار الكثيفة في البلدة القديمة.. أشجارٌ تعانقني وأعانقُها.
ظللتُ أجوبُ الشوارعَ وأنا في حيرةٍ من أمري، إلى أن وصلتُ حيَّ المحطّةِ. تُرى أين يكونُ بيتُ والدي؟ هل دُمِّر؟ هل ما زالَ على حالهِ؟ هل يقطنهُ غرباء؟ هل ما زالَ حوشُ الدار على حاله؟ راودتني أسئلةٌ كثيرةٌ، حتّى أهلكني التعبُ والسيرُ على الأقدامِ، ودبَّ اليأسُ في قلبي وأنا أطوفُ بجنونٍ من مكانٍ إلى آخرَ دون جدوى.
“سكّةُ القطار، يا ولدي… تدلُّكَ على البيت. عليكَ أن تجتازَها، وسترى بعدَها كنيسةَ الملاك جبرائيل، بيتُنا محاذٍ للكنيسة”.
وصلتُ بعد أن نالَ منّي التعبُ وأكلَ من قدميَّ، اِغرورقتْ عينايَ بالدموع، فتلكَ سكةُ القطار وهذه هي الكنيسةُ التي حدّثني عنها والدي.. ومجموعةٌ من البيوتِ المترهّلةِ المتفرِّقةِ هنا وهناك وبينها مساحاتٌ كبيرةٌ فارغةٌ، وشارعٌ واحدٌ مُعبَّدٌ. بيوتٌ لا تشبهُ بيتَ والدي المكوّنَ من طابقينِ حجارتهُ ورديّة، وأمامهُ حوشُ الدار الكبيرُ ونوافذُهُ تطلُّ على الكنيسة، وأخرى على الميناء.
رحتُ أبحثُ مرّة أخرى في أزقّةِ ذاكرتي عن بيت والدي، لكنّي لم أجدهُ! “….
———————————————-
هكذا كتبتُ قبل حوالي شهر قصّتي وأنا أتقمّص شخصيّة ذلك الرجل الحالم بالعودة.. وهكذا بدأتُ، لكنّي لم أدرك أنّ الصُدف تأتي بهذه الجماليّة، فكان لقائي قبل أسبوعين معَ شخصيّة حقيقيّة عبرت شوارع حيفا من يافا وعبّاس والحريري و”ستانتون” وساحة الخمرة، عبَرَها وهو في زيِّه المدرسيِّ… فعبَّرَ بطريقة قصصيّة أجمل وأروع، وأشدّ إيلامًا ممّا كتبتُ، لأنّها بكلّ بساطة ذاقت المعاناة على جلدها وروحها، بعكس شخصيّتي القصصيّة التي ذاقتها من بنات أفكاري.
في زيارتي لبيته المقام في حيّ وادي الجمال المطلّ على روح البحر هناك، ترافقني زميلتي في العمل سناء جمّال ديب، أو للدّقّة أرافقها أنا إلى بيت والديها عصر يوم جمُعة، لألتقي به؛ بذلك الرجل الذي كان في انتظاري ليفتح أمامي قصة حياته؛ حياة طفل عايش نكبة حيفا، لا ينسى شيئًا رغم ثقل السنين ومشاغل الحياة.. فما كان في حيفا لا يُنسى!!
وُلِدَ العمّ جورج يوسف جمّال في حيّ المحطّة، محطّة الكرمل عام 1935. ومعه وُلِدت قصّة ذلك الطفل الذي حلمَ بحياة طبيعيّة، فأتته الرياح بما لا تشتهي سفن الإنكليز، وعن غير موعدٍ انهال كلّ شيء وما عادت حيفا حيفا التي ترعرع بين أزقّتها.
فيقول: “بعد أن ترك الإنكليز البلاد عام 1947، اجتمع العرب وقرّروا ولم ينفّذوا، بالمقابل اجتمع اليهود فخطّطوا فأقاموا وطنًا لهم. كان العرب في حيفا يجهلون تعداد السكان اليهود. كنّا نعتقد أنّ عددنا أكثر بكثير من اليهود، لكن اتضّح لنا – فيما بعد – أنّنا في حيفا 600 ألف عربيّ واليهود 670 ألفًا”.
جدران وحيطان حيطان وجدران
37333612_2613353118690195_6539618922600071168_n
في عام 1947 بدأ العرب يشعرون بجِدِّيّة الأمور، فقد كان العمّ جورج وقتَها طالبًا في المدرسة الأرثوذكسيّة، وقد كانت مدرسة حتّى الصف الثامن. (اليوم المدرسة مقامة في مكان آخر وهي ثانوية).
في ذلك العام بدأت عمليّة مقاطعة العرب لليهود والعكس صحيح، وقد بُنيت حقيقةً جدران وحيطان بين الأحياء العربيّة واليهوديّة للفصل بينها، فعلى سبيل المثال: تمّ بناء حائط أو جدار قسّم ساحة الخمرة إلى قسمين، من شارع عصفور امتدادًا حتّى المِنطقة التحتا (شارع يافا)؛ تحوّلت مِنطقة عربيّة لا يدخلها يهود؛ وشِمال المِنطقة القديمة (حيث السوق العتيق؛ اليوم سوق الخضرة) بات مقصورًا على اليهود، لا يُسمح للعرب بالدخول إليه.
كانت الأحياء العربيّة واليهوديّة محاذية لبعضها بعضًا، وكان – رغم الانقطاع والمقاطعة والجدران التي بنيت – بعض المعاملات التي كانت تتمّ بين العرب واليهود، لكن بالخفاء.
الأحياء العربيّة في حيفا تخلو من سكّانها
كان حيّ المحطّة، عمليًّا، مؤلّفًا من: القشلة (بجانب الـ”داﭼـون”)، حارة التنك بجانب “رمبام”، مِنطقة “بات ﭼـاليم” (كانت تقطنها بعض العائلات العربيّة المسيحيّة، وهي قليلة جدًّا). في هذه المِنطقة كانت مدرسة الزورة للراهبات، وقد كانت مفتوحة للعائلات الثريّة وأولاد القناصل وغيرهم؛ شارع يافا، وادي النسناس، وادي الصليب، شارع العراق (شارع حيفا – الناصرة)، حيّ الألمانيّة؛ كلّها كانت أحياء عامرة بسكّانها العرب، كذلك مِنطقة الجبل المطلّ على دير مار إلياس (اليوم مِنطقة “شـﭙـرينسك” حتّى “رمات شاؤول”)، لكن تمّ تسليم المِنطقة، والعرب منهم من انتقل إلى أحياء أخرى ومنهم من ارتحل رغمًا عنه. كذلك في القسم الجنوبيّ من البلدة؛ مِنطقة شطّ أبو نصّور، حيّ التنك (على يمين “رمبام”، اليوم). في مِنطقة الكرمل سكنت عائلات عربيّة قليلة جدًّا، اضطُرّت إلى ترك بيوتها التي كانت مطمعًا كبيرًا.
صدرت الأوامر فيما بعد بتجميع العرب الباقين في حيفا في مِنطقتين، فقط: الأولى وادي النسناس، والذي حدِّد ما بين شارع “ستانتون” وأللنبي شِمالًا، حتّى زقاق عسقلان (“أشكلون”، اليوم) جنوبًا؛ ومن شارع المخلِّص (“ي.ل. ﭘـيرتس”، اليوم) شرقًا، حتّى شارع الجبل غربًا. أمّا المِنطقة الثانية فهي مِنطقة وادي الصليب، والذي عيِّنت حدوده من وادي الصليب شِمالًا حتّى شارع النزهة جنوبًا، ومن شارع الأفغاني والبرج (“معاليه هشحرور”، اليوم) غربًا، حتّى زقاق حسن شكري، شرقًا.
على مرمى الهدف
في مِنطقة وادي النسناس، وهو الحيّ العريق أو الأعرق في حيفا، كان اليهود يقومون بتعبئة براميل من المتفجّرات ودحرجتها من شارع “شبتاي ليـﭭـي”، الشارع الفوقيّ لوادي النسناس، فيخاف الناس فيهربون. ناهيك عن القنابل التي كانت تُقذف من حيّ “هدار” العلويّ إلى الحيّ العربيّ في الأسفل؛ إلى حارة الكنائس، فقد قام أعضاء من الـ”هـﭽـناه” بدحرجة برميل مليء بالمتفّجرات من ساحة البرج إلى حارة الكنائس، عبر شارع “ستانتون”.
كما كانت مِنطقة الـ”هدار” والحسبة (اليوم، سوق “تالـﭙـيوت”) مِنطقة عليا مشرفة على مِنطقة وادي الصليب، الحيّ العربيّ شرق مدينة حيفا، نقطة هدف لكلّ من يمرّ من هناك، هذا إضافة إلى مطحنة القمح (الـ”داﭼـون”)، تخضع للسيطرة اليهوديّة، وكلُّ مَنْ كان يمرّ من هناك هربًا نحو الميناء يقع في فخّ النيران التي عجّلتْ عمليّة الطرد.
جدار برلين في حيفا
إذا أردنا أن نعرف تحديدًا خطوط التقسيم، فقصر سليم الخوري (الـ”شيكيم”، اليوم) إحدى نقاط الانطلاق. في تلك المِنطقة بُني جدار، فصلَ عمليًّا شارع صهيون (نسبة إلى عائلة صهيون العربيّة) حتّى شارع “هبانكيم” اليوم، وهي مِنطقة للعرب؛ ومن كنيسة الكاثوليك ومِنطقة عين دور (سينما عين دور، سابقًا) اعتُبرت مِنطقة لليهود. كذلك اعتُبرت نقطة البلديّة محطّ تقسيم هامّة، حيث وضِعَ فاصل من البلديّة حتّى شارع “ستانتون” (القريب من حارة الكنائس) على اعتبارها مِنطقة عربيّة، ومن البلديّة وصولًا إلى شارع الأنبياء وحسن شكري و”هرتسل” و”حالوتس” (مِنطقة الـ”هدار”) مِنطقة لليهود.
على المينا شوي وراجعين
قبل احتلال حيفا بأسبوع، دبّ الرعب في نفوس الناس، وانتقلت الإشاعات والتهويل بما حصل أو سيحصل، فبدأ النزوح إلى لبنان عبر الميناء، بعد أن أدرك عرب حيفا أنّه لا أمل ولا جدوى من المتطوّعين العرب. أمّا بالنسبة إلى الإنكليز، فكان لهم دور مباشر وهامّ جدًّا في عمليّة النزوح، حيث أحضروا مراكب للميناء وسهّلوا عمليّة إبحارها تجاه عكّا، ومن هناك إلى صور في لبنان.
من الجدير ذكره، ووفقًا للمراجع والمصادر، أنّه في يوم 21\4\1948 رحل عن حيفا 15,000 عربيّ، ومع حلول الظلام يوم 22\4\1948 ساعدت القوّات البريطانية على ترحيل وتهجير 37,000 عربيّ (كانوا ما يزالون في المدينة)، من حيفا إلى عكّا ولبنان، باستخدام أربع سفن تابعة لسلاح البحريّة البريطانيّ.
وقد اعترف فيما اعترف، لاحقًا، المراقبون البريطانيّون بأنّه خلال الترحيل القسريّ للعرب عن حيفا، والذي استغرق أسبوعًا كاملًا، دخلت قوّات الـ”إتسِل” إلى الأحياء العربيّة وخلقت جوًّا من الإرهاب، ومارست عمليّات السلب والنهب واقتحام البيوت. وفي هذا يقول العمّ جورج: “أمّي وأختي نزحتا إلى قرية البقيعة في الشِّمال، للإقامة لدى الأقارب، وبقيت أنا ووالدي وعمّي (والد د. أنور جمّال) في مِنطقة مار إلياس”.
يوم 16\4 أو 17\4 ترك جورج جمّال حيفا وسافر إلى لبنان. وقبل ذهابه إلى لبنان بأسبوع أتى ثلاثة رجال وقاموا بتهديدهم؛ إمّا أن يتركوا البيت (يومها كانوا يقطنون في شارع الزيتون؛ أللنبي، اليوم) وإمّا أن يتمّ قتل العمّ جورج، فاضطُرّوا إلى الانصياع للأوامر، كما اختُطِف أخوه الأكبر، وحتّى اليوم هو مجهول المصير.
“رجعت بعد سنتين وعشرة أشهر ورأيت حيفا!! لم أعرفها تقريبًا.. تمّ تفريغ البيوت والأحياء العربيّة من العرب وسكنها اليهود، وقد تجمّع العرب في مِنطقة وادي النسناس وشارع عبّاس. في بداية النكبة تبقّى في حيفا 350 شخصًا، فقط. فقد أدّى رحيل السكّان العرب عن حيفا إلى تغيير المعالم العربيّة للمدينة”، يضيف العمّ جورج. يُذكر أنّه بناءً على السجلّ السكانيّ في أرشيف حيفا لسنة 1948، بقي في مدينة حيفا بعد النكبة 3,700 عربيّ (637 عائلة)، وقد وُزِّعت على الأحياء العربية التالية: الألمانيّة، الكرمل، الكبابير، عبّاس، حيّ القشلة (محطّة الكرمل)، البلدة القديمة، وادي النسناس، وادي الجمال، حارة الكنائس، والحليصة.
جورج جمّال في “عائد إلى حيفا”
وكأنّ غسّان كنفاني كان على موعد مع حكاية العمّ جورج، فسردَ قصّته مجسِّدًا إيّاها في شخصيّاته الروائيّة في ملحمته “عائد إلى حيفا”، فيعود جورج جمّال إلى بيته فلا يستطيع، فيستقرّ هو وعائلته في بيت صديقه وابن صفّه من دار العيسى في شارع الحريري، وكان ذلك بعد أن حاول العرب في حيفا، ومن ضمنهم عائلة جورج، استعادة البيت من خلال محامي الأرض والإنسان، المحامي حنّا نقّارة، وزميله ﭬـاكسمان، لكنّهم لم يفلحوا، فذهبوا بلا شيء إلى حيّ وادي النسناس، وسكنوا تحديدًا في بيت في شارع الحريري، يقول العمّ جورج: “حالَ دخولي البيت تذكّرتُ أنّه بيت صديقي وابن صفّي من دار العيسى، الذين ارتحلوا عن حيفا، فقد كان خاليًا لا روح فيه ولا حياة”.
يوم كان تلميذًا يكتبُ حروفه الأولى
ويسير التلميذ جورج نحو مدرسته، مدرسة الروم الأرثوذكس المقابلة لكنيسة الروم الأرثوذكس، يسير إليها على قدميه، فيعبر السوق المحاذي لكنيسة اللّاتين في ساحة الخمرة، يصبِّح على سوق الشّوام وسوق العطّارين وسوق الجزّارين، وتبهره ألوان الدكاكين المترامية هناك على طرفي الشوارع، فيستريح هنيهة أمام جامع الجرينة، ليعاود المسير مرّة أخرى نحو مدرسته المطلّة على البوّابة الشرقيّة لحيفا، ليكتب على جدرانها جملته الأولى: “أنا أحبُّ حيفا وحيفا تحبّني”.
وكان كما يقول العمّ جورج: “هو الهدف الأوّل بعد النكبة”. وما هو؟ سوق الحسبة، الهدف الأوّل، أو ما كان يسمّى بسوق العرب الممتدّ من حواصل “عصفور” حتّى جامع الاستقلال، ومن ثمّ الهدف الثاني، محو المعالم العربيّة للبلدة، وكانت الأنظار الجائعة بعدها نحو حيّ المحطّة.
————————————
وأعود إلى أصل الحكاية..
عاد الحزن وسيطر مرّة أخرى على نوافذ قلبي، اعترضْتُ امرأةً مسنّةً بالكاد تسير، رُحْتُ أسألها كالمستعطي عن بيت والدي وعن عائلتي.. قالتْ لي إنّها ليستْ من سكّان حيفا الأصليّين، ولا تعرفُ أسماءَ العائلات الحيفاويّة… وبعد أن رأتْ حالي، أشفقتْ عليّ، فاقترحَتْ أن أسأل صاحب البقالة المنزوية في آخر الشارع هناك.
ذهبتُ نحوه مسرعًا، وبعد إلقاء التحيّة عليه، سألتهُ كالغريق المتعلِّق بقشّة: “يا عمُّ! ما الذي حصلَ للبيت المكوّن من طابقين، المحاذي للكنيسة هناك، وأمامه حوشٌ كبيرٌ كان يلعبُ فيه أطفالُ الحيّ؟”
أنزلَ صاحبُ الدكّان نظّارتَه قليلًا، وراح يتمعّن بتفاصيل وجهي، كمَنْ يبحثُ عن شيءٍ ما.. فقالَ لي: “معَ سقوط حيفا ومحطّة الكرمل، هُجِّرت أغلبيّة سكّان الحيّ الأصليّين، فترمّلتِ البيوت، وساء حالها حتّى ترهّلتْ بالكامل فسقطتْ، فسقط معها ذلك البيت الجميل المكوَّن من طابقين وأمامه حوشٌ كبيرٌ”.
خرجتُ من دكّانه وفي قلبي حسرةٌ.. فناداني العجوزُ قائلًا: “ألمْ يقلْ لك والدُك أنّ البيوتَ تموتُ حين يتركُها أصحابُها يا ولدي؟”
تناولتُ سيجارة ورحتُ أشربُها على مهلٍ، أتخيّلُ والدي يلعبُ ويتقافزُ وينطنطُ في حوش الدار، هناك أمامَ الكنيسة المطلّة على بحر حيفا وروح حيفا”.

الصورة بلطف عن صفحة #حيفا القديمة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *