مضى أسبوع على عمليَّة القرصنة البحريَّة الإسرائيليَّة لسُفُنِ الحُرِّيَّةِ القادمة من غرب بلاد الشّام تحمل الأحرار من كلِّ حدب وصوب، على اختلاف انتمائهم الإثني والقومي والدّيني والعقائدي، نساءً ورجالاً، شيبًا وشبابًا، توحَّدوا تحت راية إنسانيَّة طاهرة وساميَة وهي إغاثة الأهل في غزّة هاشم المحاصرة، حيث حملت على متنها مساعدات ومعونات طبيَّة وغذائيَّة وحاجيَّات يوميَّة وإنسانيَّة، معونات ترفع معنويَّات الأهل المحاصرين وتدعم صمودهم وكفاحهم ضدَّ الاحتلال، وتكسر الطَّوق المشدود بإحكام حول نَحْر القطاع منذ سنين، لتُحرِّره من نَحرِهِ وتفرج عن المليون ونصف فلسطيني فيه، بعد أن رأوا أنَّ "التَّضامن العربيّ" الرَّجعي يزيدُ الخِناق شدَّةً وإحكامًا ويدعم الاحتلال. وهذا ما يعيدني إلى ما قالته غولدة مائير حين أقلقتها الكوابيس ولم يغمض لها جفنٌ يومَ حُرِق المسجد الأقصى بعد احتلال الضَّفَّة الغربيَّة، بينما نامت ليلتها التَّالية طويلاً براحة الجفنِ المُتعبِ حين لَم يتحرَّك ساكن الحُكَّام العرب البتَّة.
شاءت الصُّدَف أنِّي كتبتُ في زاوية صباح الخير قبل ثمانية أيَّام عن رفيقتنا لولو (بنينة فايلر) وابنها درور (حُرِّيَّة بالعربيّة)، وشاءت الصُّدَف أيضًا، وكأنَّنا على ميعاد معه، أن يكون درور متواجدًا على ظهر إحدى سُفُن الحُرِّيَّةِ، حيث اعتقلته شرطة السَّاحل للتّحقيق معه أسوةً ببقيّة المعتقلين الأحرار الكاسرين للطَّوق الخانق..
وحين هاتفتُ والدته سائلاً عنه وعن ظروف اعتقاله، قالت إنَّها لا تعرف عنه شيئًا، وتابعت: "يعني ماذا نتوقّع من الشُّرطة"؟ لكنَّها طمأنتني بأنَّ جهاز التَّحقيق لا يستطيع النَّيل منه وتقديمه للمحاكمة، لأنَّه قبل عشرين عامًا تنازل عن جنسيَّته الإسرائيليَّة لصالح السويديَّة، جنسيّة زوجته التي يقيم معها هناك.
لقد فرضت السُّلطات الإسرائيليَّة تعتيمًا دامسًا وشاملاً حول أسماء المعتقلين وهويَّتهم ومكان وجودهم، لكنَّها بالمقابل نشرت الإشاعات حول مصير أحرار السَّفينة من الفلسطينيِّين سكَّان البلاد، حيث نقلت وسائل الإعلام المحليَّة طوال ساعات النَّهار أخبارًا مشبوهةً حول "مقتل شخصين حيفيّين وإبلاغ عائلتيهما بذلك"، والخبر الثَّاني المشبوه حول مصير "الشَّيخ رائد صلاح الموجود في غرفة الإنعاش المكثَّف"، مرَّةً في مستشفى رمبام وأخرى في مستشفى هداسا، أو هل كانت هناك خطَّةٌ لاغتياله، لكنَّهم فَشِلوا. لقد هدفوا من فحِّ تلك الإشاعات إدخال الإحباط واليأس في نفوس الجماهير الغاضبة والثَّائرة لتُعيد إلى ذاكرتنا الحيَّة مجازر تشرين أوَّل عام ألفين، وتنفّذ مجازرها الجديدة لتروي ظمأ "الدراكولا الكبير" ذات الرّؤوس الثّلاثة ويبطشوا بجماهيرنا المسالِمة..
لقد دفع أحرار العالم الذين أتوا شواطئنا حياتهم ودمهم ومستقبلهم من أجل فكِّ الحصار عن أهلنا في غزَّة، وانتصر الدَّم الزَّكيّ الحُرّ على سيوف القراصنة وهمجيَّتهم، وأحرجوا بذلك أنظمة الخنوع "العربيَّة"، وبانت عورتهم أكثر بعد أن نفذت جميع أوراق التِّين التي يملكونها!
يتأرجح نهج حكومات البلاد المتعاقبة بديمقراطيَّة هشَّة وكبت مفضوحٍ للحُرِّيَّات وعدوانيَّة واحتلال للأراضي العربيَّة، كحمار الحنَّانة الذي يسير حول نقطة مركزٍ واحدة ويعود بعد دورانه إلى نقطة انطلاقه في محيط دائرة الحرب والعدوان، يسير لإنجاز هدفه، أنَّ الحلَّ العسكريّ والقتل هو البديل الوحيد، متجاهلين الخيار الأفضل والأنسب، السّلام والطّمأنينة والمساواة لجميع دول المنطقة وشعوبها، ونحن نعرف تلك الحكومات المتتالية معرفةً جيِّدةً بعدوانِيَّتها وعدائها لشعوبنا وللسّلام، لأنَّ أهل البلاد أدرى بشعابها. فإلى متى؟!
المجد والخلود لشهداء سفن الحرِّيَّة، والحرِّيَّة لأسرى الحرِّيَّة، والصِّحَّة والعافية لجرحى سُفُنِ الحرِّيَّة، وليسقط الحصار عن قطاع غزَّة، والحرِّيَّة لشعب فلسطين
العربيّ الذي وُلِدَ حُرًّا. وشكرًا لأبطال سُفُنِ الحرِّيَّة..