يقول الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني في كتابه "عائد الى حيفا" حيث يصف الحرب في حيفا لحظة سقوطها "صباح الاربعاء 21 نيسان عام 48 كانت حيفا مدينة لا تتوقع شيئا رغم انها محكومة بتوتر غامض. وفجأة جاء القصف من الشرق من تلال الكرمل العالية، ومضت قذائف "المورتر" تطير عبر وسط المدينة لتصب ما فيها في الاحياء العربية. وانقلبت شوارع حيفا الى فوضى، وعم الرعب في المدينة التي اغلقت حوانيتها ونوافذ بيوتها. كان سعيد في قلب المدينة حين بدأت اصوات الرصاص والمتفجرات تملأ حيفا. كان قد ظل حتى الظهر غير متوقع ان يكون ذلك هو الهجوم الشامل… وفي كل مرة كان يحاول العودة الى وجهته الرئيسية منتقيا احد الازقة، كان يجد نفسه كأنما بقوة غير مرئية يرتد الى طريق واحد. ذلك هو المتجه نحو الساحل". اذن الكاتب كنفاني يصف بدقة لحظات بداية نكبة حيفا وسقوطها في اليوم التالي 22 نيسان 1948، بعد هجوم 21 نيسان في عملية اطلقوا عليها اسم "مسبراييم" – أي المقص.
.jpg)
بعد هذه المقدمة يمكن أن ندخل في صلب الموضوع حيث التقينا براشد
الماضي( أبو محمود) 73 عاما الذي تعود جذور عائلته العريقة الى قرية إجزم المهجرة. يتحدث الماضي في لقاء مؤثّر مع صحيفة حيفا بعد مرور 62 عاما على نكبة حيفا ونكبة قريته إجزم حيث كان عمره 10 سنوات عاش النكبة وعايشها. لقد قمت بجولة برفقة أبو محمود راشد الماضي الذي أرشدني الى مدرسته التي تعلّم فيها وأشار الى مكان بيت العائلة الذي أقيمت على أنقاضه المباني الحكومية في حارة الكنائس.
(23).jpg)
التقيته في الذكرى ال 62 لسقوط حيفا ونكبة فلسطين فحدّثنا عن ذكرياته حيث توجّهنا الى شارع البرج(معاليه هشحرور) حيث مدرسة البرج التي تعلم فيها مع العلم بأنها تحولت الى مقرّ عسكري. يقول الماضي" تعلمت بداية في مدرسة السباعي في حارة الكنائس ليس بعيدا عن بيت العائلة، ثم تعلمت في مدرسة البرج. وأذكر حين اندلاع حرب ال 48 ووقوع النكبة كنت في الصف الثالث وكان عمري 10 سنوات. ففي نيسان 48 توجه معلم المدرسة الى الطلاب وأعلمنا بأن المدرسة ستتوقف عن التعليم بسبب تدهور الأوضاع وخطورتها. أما عدد الطلاب فقد كانوا نحو 300 طالبا. كانت المدرسة على مستوى عالي والى جانب المدرسة ملعب كرة قدم. كانت المدرسة تابعة للجمعية العربية الإسلامية". ويعدد الماضي المدارس التي عايشها فبي حيفا وهي مدرسة النهضة، ومدرسة البروتستانت، الفرير، الراهبات وغيرها.
(22).jpg)
تعود عائلة الماضي من قرية اجزم المهجّرة وكان يسكن عدد من عائلة الماضي في حيفا فكانت لها أملاك في منطقة ساحل حيفا ولها أملاك في الطنطورة وفي المزار. يقول الماضي"عشت فترة التهجير حيث كنا أنا أبي ووالدتي وأخي رشدي وأخواتي نعيش في حيفا في بيت يقع في حارة الكنائس عشنا في حيفا قبل 48. أريد أن أتحدث عن حيفا ما قبل 48. فعندما بدأت الأحداث بعد قرار التقسيم وتدهور الأحوال ما حدث أن عنصر التخويف سادت في تلك الفترة شائعة بأن قوات الهجانا هي"قوات خارقة" قد أثارت الرعب فكنت أحد الأطفال المرعوبين الذين سمعوا بهذه الشائعة.
ففي فترة 48 ما بين 21-22 نيسان بدأنا نسمع نغمة "حيفا سقطت،حيفا سقطت". ففي الساعة 12 منتصف الليل بدأت العائلة بتجهيز نفسها للرحيل.
وكانت حارة الكنائس حيث كان بيت العائلة تسمع أصوات اطلاق الرصاص. فاليهود تمركزوا في منطقة الهدار أما العرب فتمركزوا في منطقة البلد في حارة الكنائس ووادي الصليب حيث لم يكن العرب مستعدون لهذه الظروف من تهجير ومعارك".
(25).jpg)
ماذا رأيت في تلك الفترة من التهجير؟
لم نر أي معارك كما يتحدثون عنها كانت القيادة تدرس الوضع والدفاع عن الأحياء العربية كان صعبا للغاية بسبب الناحية الإستراتيجية للهجانا أقوى من العرب. فمعظم سكان حيفا هربوا حين سمعوا عن سقوط حيفا وتوجهوا الى ميناء حيفا فقد هربوا من الخوف ومن الدعاية الصهيونية التي أثارت الرعب. كما أن الإنجليز فتحوا بوابة الميناء وأنا بالصدفة أزحت أمي حيث أنقذتها من رصاصة كانت باتجاهها فأنقذت حياتها خلال تواجدنا في الميناء ولكن الرصاصة مرّت قرب أذني فأصابت احد المهجّرين الذي كان على السفينة، فأصيب ورأيته بعيني يسقط أرضا حيث أصيب برجله". ويتابع الماضي رحلة العذاب والتهجير" هذا وقد توجهنا الى عكا حيث صعدنا الى العوّامات فوصلنا الى الميناء وتوجهنا الى بيت عمتي وعمي وبعد أيام
عدنا الى حيفا". ويستطرد الماضي" أذكر كان يونس نفاع أحد المسؤولين القياديين عن حيفا في 48. وبعد سقوط حيفا هرب الى عكا وانتشر الخبر بين الناس بأن يونس نفاع سلّم حيفا وها هووصل ليسلّم عكا وهذه اشاعات فلم يكن قيادة وقوات تقوم بالدفاع عن حيفا أو عكا. فبعد أيام عدنا الى حيفا ولكن ليس الى بيوتنا فكل الذين عادوا عن طريق الميناء". كان خالي بحري توجه الى سوريا ولم يعد حيث صدف أن البحر كان هائجا في تلك الفترة بعد أن اعتقدنا بأنه سيأخذنا الى لبنان أو سوريا فلم يتمكن من العودة وأخذنا. فحيفا خلال ساعات أصبحت فارغة من سكانها فلو كانت قيادة حكيمة وأعطت أمر بعد الهروب أو الخروج من البيوت لكان الوضع يختلف عما هو عليه في تلك الفترة. فحيفا سقطت بسبب قصر رؤيا لم يكن الوضع العربي ناضجا".
(25).jpg)
ويتابع الماضي "وصلت سيارة وأخذتنا الى اجزم حيث عشنا الفترة الثانية من التهجيرحيث شهدنا المعارك كما حلّ في الطيرة وعين غزال والطنطورة. فقد رحل أهل اجزم وبقيت فارغة لمدة 7 أيام بعد سقوط حيفا فقامت الطائرات بقصف البيوت مع أنه كانت طائرات بدائية فأصابت الغارات 11 شخصا وقتلوا فهربنا الى بيارة محمود الماضي في اجزم من زعماء اجزم. وأذكر كان معين الماضي أحد الشخصيات العربية في الهيئة العربية . فبعد هروبنا من حيفا بعد سقوطها الى اجزم ولكننا لم ننجو من التهجير مرة أخرى حيث وقعت اشتباكات ومعركة على خط حيفا القديم بدأت من الطيرة واستمرت حتى اجزم".
هذا وتوجّهت برفقة الماضي الى موقع مرتفع في وادي الصليب يطلّ على المباني الحكومية وعلى كنيسة السيدة ، بيت النعمة كنيسة ألأورثوذكس(حارة الكنائس). حيث بدأ أبو محمود يشير الى موقع بيت العائلة الذي أقيم على أنقاضه مبنى المحاكم وبحرقة قال"كانت بالقرب من بيتنا دكان نذهب اليها لنشتري حاجيات البيت لصاحبها نعيم العسل ويقع بقربها جامع الجرينة (النصر).وأذكر قرب كنيسة الروم الأورثوذكس كانت ساحة يبيعون فيها اللبن واللبنة وكانت الفرحة في عيد الفصح حيث يبعون البيض. وكانت زاروبة توصل الى جامع الجرينة وقد سمعت مرة أنه قتل أحد المصلين في الجامع بعد خروجه من الجامع ضابط مصري(انجليزي) اسمه حليم رستم كان يضايق الفلسطينيين. كانت حارة الكنائس اكبر أحياء حيفا في منطقة، وكانت مدرسة الفرير من أعلى المستويات وخدمت أهالي حيفا والى جانب الفرير ساحة الخمرة". فبعد 48 عدنا الى اجزم وبعدها توجهنا الى الدالية وبعدها الى وادي النسناس شارع الوادي 61 فعدنا الى حيفا وليس الى بيتنا. فبقيت في وادي النسناس بعد 48 حتى اليوم".
(26).jpg)
أهم الذكريات التي يحملها الماضي في 48 بأن القيادات العربية لم تدرس الوضع وفقدت البلاد بسبب عدم التنسيق. بعكس القيادة الصهيونية كانت دارسة الوضع ومستعدة للحرب أي جيش منظم".ما تبقى من حارة الكنائس بعد اقامة مشروع المباني الحكومية الكنائس وتم محو معالم الحي الذي اكتظ بالسكان والأسواق ودبت فيه الحياة كمركز حيفا فقد تم هدم البيوت وحو معالم حيفا. ويختتم الماضي " بقيت في وادي النسناس أعمل في النجارة حيث توفي والدي وكنت المعيل للعائلة فتعلمت مهنة النجارة وما زلت اعمل وأعيش في وادي النسناس وكلمتي الأخيرة يجب أن نتمسك بوجودنا وأن نتوحد وألا ننسى حيفا معالمها وتاريخها".
أجمل ما اختتم به هذا التقرير الحزين ما قاله الشاعر الحيفاوي الاصل والمولد حسن البحيري الذي نزح عنها في 48 الـ من قصيدته:
"حيفا في سواد العيون"
وذرى تعالت للسماك الاعزل
ولمحت بين سوادها وبياضها
ظل الصنوبر في اعالي الكرمل
اما احمد دحبور الشاعر الكبير الحيفاوي المولد والاصل والذي يعيش حاليا في غزة فيقول:
"عرشت حيفا على الاجفان
فيا جمل المحامل سر بنا
ومتى وصلنا، قل لنا: ابكوا"
وكما قال ايضًا:
"حيفا هذه ليست مدينة، انها الجنة ومن لا يصدق فليسأل امي"
اما الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش فيقول:
"احب البحار التي سأحب، أحب الحقول التي سأحب، ولكن قطرة ماء بمنقار قبّرة في حجارة حيفا، تعادل كل البحار".
رزق ساحوري




