لا اعرف إن كان لرحيلك في هذا اليوم بالذات، يوم إحياء ذكرى النكبة، نكبة شعبنا، نكبتك الشخصية كمهجر، هو من سخريات القدر، أم أن قدرك المحتوم اختار لك هذا اليوم بالذات، كي تكون عودتك اليوم، روحا، بانتظار عودة الجسد، مع المهجرين إلى أراضي قريتك البروة، التي سبقتك إليها روح محمود درويش، كي تبقى هناك، تعود وإياه إلى ملاعب الطفولة، تعانقان ما تبقى من جذوع زيتون وحجارة، ويدوي صوتكما كريح عاصفة: لقد عدنا.
وليد ياسين
أتخيلك الآن يوم التقينا، وكان اللقاء الأخير، قبل عامين، عند بوابة تلك الساحة التي احتضنت الآلاف ممن جاؤوا للمشاركة في تأبين محمود درويش بعد أن حرمنا، وحرمت البروة من احتضان جسده. أذهلني المشهد.. كانت قد مضت سنوات على اللقاء السابق بيننا، ولم أعرف إلا في ذلك المساء الحزين أن المرض قد نال من جسدك وأنهك قواك، لكن روحك الثائرة، ابتسامتك الجليلية، كانت لا تزال ترسم علامات التحدي على وجهك، تماما كما عرفتها منذ التقينا أول مرة في حلبة النضال في صفوف الشبيبة الشيوعية، وعايشتها يوميا خلال عملنا سوية في تحرير مجلة "الغد" قبل أن تفارقها قسراً للتفرغ للعمل السياسي، وأفارقها بعدك بفترة وجيزة منتقلا إلى صحيفة "الاتحاد". وقد أفرحني لاحقا، بعد سنوات، نبأ عودتك إلى المهنة التي أحببت، وبالذات لرئاسة تحرير "الاتحاد" وأحزنني في الوقت ذاته، أنني كنت قد فارقتها، قبل مجيئك، فحرمت من متعة العمل وإياك، فواصلت أنت أداء رسالتك من هناك، وواصلتها أنا في موقع آخر، لكننا أبدا ما افترقنا، وما نسينا "العيش والملح" وزمالة أيام "الغد" في تلك الغرفة شبه المعتمة في الطابق السفلي من تلك العمارة المنتصبة على ناصية شارع حداد في حيفا.
وأتخيلك الآن جالسا إلى طاولتك، تفصل بيننا بضع خطوات، استمع إليك وأنت تتحدث بلهفة عن البروة، وأنت تكتب صفحة أخرى من صفحات الذكريات، تحن إلى أيام الطفولة، وتمتشق سيفك "قلمك" لتدون سطرا آخر من صفحات المسيرة. أتذكرك واشعر بدمعة تأبى مفارقة العين، بألم في أصابع تتمزق وهي تحاول كتابة هذا النص وأنت المسجى الآن هناك جسدا لكن صورتك حيا، مناضلا، مقاتلا تأبى الرحيل من مخيلتي وتصر على استحضار ابتسامتك يوم كان اللقاء الأخير، وعبارة واحدة قلتها لحظة افترقنا: "خلينا نشوفك".
أخي، رفيقي، احمد سعد.. اعذرني لأنني لا أجيد الرثاء، اعذرني لأنني لم أرك منذ ذلك اللقاء، ولأنني لم انهل المزيد من كلماتك ونصائحك التي كانت رفيقا ملازما لي في بداية عملي الصحفي.
مهما اكتب من الكلمات لن أوفيك حقك، مهما اسطر من حروف لن تعبر عما اشعر به من الم لرحيلك، فأنت المسكون بالألم لم تعرف معنى اليأس حتى حين أقعدك المرض، واصلت امتشاق القلم ومصارعة الظلم وملاطمة المخرز حتى اللحظة الأخيرة وهكذا ستبقى ذكراك عطرة في مخيلة كل من عرفك. فوداعا أخي ومعلمي احمد سعد، أيها البرناوي الراسخ في ذاكرتنا وسجل الخلود كرسوخ حجارة البروة في وجه العاصفة.