مسرح الميدان على شفا الهاوية- بقلم: نايف خوري

مراسل حيفا نت | 02/06/2009

ما أن استبشرنا بولادة المسرح العربي – الميدان، حتى أخذنا نعقد عليه الآمال ونبني له مستقبلاً باهرًا وزاهرًا من الأعمال المسرحية والنشاطات الفنية. وكان لي الشرف أن أكون واحدًا من مؤسسي هذا المسرح، نظرًا لضرورة وجوده في المنظومة الثقافية العامة، والتي يجب أن تصبح ركيزةً ثقافيةً وحضاريةً لهذا المجتمع.

لا يختلف اثنان على حيوية المسرح في كيان كل شعب، فهو المرآة التي تعكس وجوده، وتراثه وتاريخه وحاضره ومستقبله، ولم يخطئ لينين عندما قال: أعطني "مسرحًا وشعبًا أعطيك ثورة"، وذلك بعد أن شاهد مسرحية لأنطون تشيخوف وقد أخرجها قسطنطين ستانسلافسكي في موسكو. وقد أدرك الغرب كله أهمية وجود المسرح في حياته الثقافية على مر العصور، وكان الحرص على المحافظة على وجود هذا المسرح في أيام الحرب وأيام السلم، فنشأت المدارس المسرحية والأساليب المختلفة وتعددت أنواعها حتى تبوأت هذه المسارح صدارة الحركات الثقافية لدى تلك الشعوب.

لا أرغب بالمقارنة بين ما يجري في أوروبا وبين ما يجري في بلادنا، كما لا تليق هذه المقارنة للدلالة على التقصير اللاحق بحق الشعب العربي قاطبة، والفلسطيني خاصة، والفلسطيني الإسرائيلي بالتحديد تجاه المسرح، ولكن لن تفوتني المقارنة بين المسرح العبري والمسرح العربي في هذه البلاد. وهنا تبدأ المشكلة، فإن الحكومة التي يجب أن تشجع الأعمال الثقافية وترصد لها الميزانيات وتدعم النشاط الإبداعي، في الأدب والفن برمته، لدى العرب واليهود على حد سواء، أو على الأقل يجب أن توزع الميزانية النسبية التي رصدتها، أي بموجب نسبة السكان العرب من اليهود، هذه الحكومة تسعى إلى تشجيعات أخرى وتنحو نحو مجالات بعيدة كل البعد عن الثقافة العبرية والعربية، لا بل تمنح الثقافة العربية الفتات والكسر من نسبة ما قد يتبقى بعد توزيعه على نواح وزارية أخرى. 

وأحصر الكلام في الحركة المسرحية المحلية بما جرى لمسرح الميدان في حيفا، حيث تعاقبت على هذا المسرح هيئات إدارية متعددة، وتولى إدارة الميدان مختصون، منهم من لاقى الدعم والتشجيع، ومنهم من لاقى المعارضة والمناهضة لبرامجه، ولن أدخل في هذا الخضم لأن هؤلاء المدراء أصدقائي، لا لذنب اقترفوه أو تقصير ارتكبوه، بل لأنهم تلقوا الوعودات تلو الوعودات التي فرشت طريقهم بالورود ودروبهم بالرياحين، وأعمالهم بأكاليل الغار، ولم يظهر من هذه الوعود سوى الكلام، بل الكلام الفضفاض، والأحاديث الرنانة والتصريحات الطنانة، إن كان على مستوى الموظفين أو المسؤولين أو حتى الوزراء أنفسهم. وكم مرة قام هذا الوزير أو ذاك بزيارة المسرح، أو بالاجتماع مع إدارته أو بلقاء مديره، ووعده ذاكرًا له الأرقام المخصصة والمرصودة في الميزانيات، ولكن لم تصل هذه الميزانيات المخصصة ولا أموالها الطائلة ولا مبالغها الهائلة، فذهبت هذه الوعود هباءً، وأصبح هؤلاء الوزراء والموظفون بلا مفعول ولا تأثير ولا قرار، وذهبت تصريحاتهم أدراج الرياح. فهم يظهرون ثم يرحلون ويبقى مسرح الميدان في الميدان يعمل ويعمل، ويستمر في مواجهة الصعوبات وعسر الميزانيات حتى يحل الفرج من عند الله، وينحسر الضباب عن الحقيقة وينقشع الظلام عن الواقع المرير.

هذا ما حل بالفنان يوسف أبو وردة عندما أدار المسرح، وكذلك المخرج فؤاد عوض والممثل مكرم خوري وتلاه سليم ضو، الذي أخذ يحك رأسه ويفرك جبينه متسائلاً: لماذا هذه الوعود، التي تبهر العيون وتعمي الأبصار؟ لماذا يتهربون باللحظة الأخيرة من تنفيذ ولو جزء مما وعدوا به؟ وأضاف: أنا أعلم علم اليقين بأن الميزانية رصدت لمسرح الميدان، ولكن أحد الموظفين يرفض تحويلها، فما هذه إلا وقاحة تصل حد الجريمة.

كان الهم الشاغل لجميع مدراء الميدان تحصيل الميزانيات، وصرفها بالشكل اللائق، وشغلهم الشاغل أن يقدموا للجمهور أعمالاً فنية تليق بهم، ويحمل كل منهم اسمًا لامعًا في عالم المسرح، وهذا ما حدا بالفنان سليم ضو أن يقدم أعمالا فنية له ولسواه من الممثلين، فكيف ستبدو إدارة مسرح لم تقدم مسرحية جديدة من إنتاج محلي منذ تسعة أشهر؟ وكانت تلك مسرحية "قصة خريف" التي أنتجها الميدان في سبتمبر أيلول من العام الماضي، وها هو اليوم يقدم إنتاجًا آخر بعنوان "خبر عاجل"، بميزانية سلبية وبالديون التي تضاف إلى المتراكم منها من قبل. لوّح سليم برزمة مفاتيح المسرح، وقال: لم يعد أمامي مفر سوى أن نقفل المسرح، وقد انقطع بعض الموظفين عن العمل بسبب مطالبتهم برواتبهم، وسأسلم المفاتيح للإدارة التي ستنظر في مصير الميدان. فما هو مقدار احتمال أي شخص للتطوع وتقديم المساعدة والعمل شبه المجاني؟ وبالتالي تذهب كل أعمالك سدى؟ وكيف يمكن أن تعمل في مؤسسة كمسرح الميدان بديون تتراكم وتتراكم وبالتالي ستنهار فوق رأسك ورأس الذين خلفوك. فما لي بهذا القلق والأرق الذي لا يدعني أتمتع بعملي وأشعر بالسعادة لإنجاز فني ومسرحي أقوم به؟

إن الميدان يقف على شفا الهاوية، هاوية الإغلاق، إنه بمثابة انتحار للحركة المسرحية في بلادنا، إنه تمييز واضح بين المسرح العبري والعربي، فهل حال المسارح العبرية أفضل؟ لا أعتقد بأنه أفضل بكثير، ولكن المسارح العبرية لديها من يرعاها فلا تدعها الوزارة تغوص في مستنقع الديون ولا تصاب بداء الشلل، لأنها بمثابة ابنها الشرعي وكأننا نحن أبناء الجارية. كما أنه تمييز فاضح بين مسرح عربي وعربي، بحيث تتلقى بعض الفرق المسرحية العربية ميزانيات بموجب عدد العروض التي تقدمها لطلاب المدارس لا بموجب مستواها الفني. ومن هذه الفرق تلك التي لا يليق بها أن تسمى مسرحًا، فتحصل على الألوف المؤلفة والأموال الطائلة التي ليست بحاجة إليها، لا لأنها لا تستحق الحياة بل لأن مستوياتها المسرحية متدنية وسخيفة وسطحية ولا ترقى أعمالها إلى المستوى الفني المطلوب، وهي لا تجرؤ على تقديم مسرحيات للكبار، بل تنحصر أعمالها لطلاب المدارس. وهذه الفرق تبيع مسرحياتها كما نبيع الخيار والبندورة والبطيخ، وكل من يناقص على مسرحيته يلقى رواجًا أكثر، ويضع مسوق هذه الفرقة أو هذه المسرحية مدراء المدارس في موضع الإحراج والخجل لكي يشتري مسرحيته بأبخس التكاليف والأثمان. ومدير المدرسة هذا لا يهمه المستوى الفني ولا المستوى الثقافي، بل ينصب جل اهتمامه على أن يمضي طلاب مدرسته ساعة من الوقت وكأنها فرصة لتغيير الأجواء المدرسية. أليس من العار أن تتعامل الوزارة مع الحركة المسرحية التي يجب أن ترعاها بهذا الشكل؟ أليس من العيب أن تضاف الميزانيات وتزداد عامًا بعد عام لهذه الفرق التي تسيء إلى سمعة المسرح وتشوه مكانته؟ ويبقى المسرح الأصيل الذي يستحق الدعم وهو بأمس الحاجة إليه، ويصبح بحالة يرثى لها؟  

من يتزوج بالدين ينجب أولاده بالفائض، هكذا قال المثل العربي، صدق أو لا تصدق، فإن هذا ينطبق على ما يجري في مسرح الميدان، والديون التي تراكمت على المسرح تزيد عن ربع ميزانيته السنوية، وتقف الإدارة عامة بكافة أعضائها إلى جانب المدير عاجزة تلوح بيديها طالبة النجدة والإنقاذ من الغرق فلا معين ولا منقذ ولا مسعف. فماذا يجب أن يفعل هذا المدير أو أي مدير آخر؟ كيف يمكنه أن يدير بلا شيء حتى لو اتصف بالنبوغ والعبقرية والسحر، وماذا يتطلب منه لكي يحصل على تطبيق لوميض الوعود التي تخطف الأنظار؟ لم يبق أمام الإدارة سوى الوقوف أمام معجزة الشفاء، وحلول فرج الله على عباده الصالحين والمحبين للمسرح، والساهرين على مصلحته. وها هو المدير المكبل اليدين والقدمين، يحتار في ما سيفعل، إزاء ابنه الميدان وفلذة كبده، وهو في الرمق الأخير، ينتظر الدواء الذي ينقذ ابنه من حتفه المحتم، ويتسائل: متى سيأتي الترياق من العراق؟ 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *