"وأقول شعرًا لا لكي تصلوا إلى حيفا، ولكن كي تروْها"
لكِ يا منازل في القصيد منازل
حيفا في شعر أحمد حسين
نبدأ بمقاطع متفرّقة من قصّةِ "انهيار" لنفهمَ علاقة حيفا بأحمد حسين، وعلاقة أحمد حسين بحيفا:
– أنا فنجانٌ!
فيجيبُ الآخر على الفورِ:
– أنا إبريقٌ!
– أنا طنجرةٌ!
– أنا بِرميلٌ!
…وهكذا إلى أن يعجَزَ أحدُنا عنِ الاستمرارِ في مباراةِ التفوّقِ هذه.
ومع الوقتِ أصبح لنا سلاسل مؤلّفة من كلِّ الأنواعِ تشملُ مملكةَ النباتِ والحيوان والجمادِ حولَنا، وكانَ لكلِّ سلسلةٍ بدايةٌ دون أن يكونَ لها نهايةٌ، فالبحث مستمرٌّ من الجانبيْنِ والمفاجآتُ تترى كلَّ يومٍ، والسلسلةُ التي تقفُ اليومَ عندَ التوتةِ تقفُ غدًا عند الجمّيْزةِ، والتي يختمها اليومَ الجَلُ يختمها غدًا الفيلُ. وكانت السلاسل تمتدُّ وتمتدُّ وتنمو كالزواحف مع كلِّ اكتشافٍ لأحدِنا، ما عدا سلسلة واحدة.
كانت تلك سلسلة مغلقة باعتراف الاثنينِ، ذلك أنّها تنتهي بحيفا. ولمـّا كانَ من المستحيلِ أن يكونَ هناكَ بلدٌ أكبرُ من حيفا فقد أهملَ البحث في مجالِها.
…..
ومساءَ البارحةِ كنتُ أنا الذي أغلقتُ السلسلةَ، أحسستُ بحلاوةِ الموقفِ قبلَ أن أصلَ إليهِ، وشعرتُ بالبهجةِ تنمو في نفسي مع كلّ اسمٍ في الطريقِ إلى الغايةِ. وأخيرًا شددتُ قامتي رغمًا عنّي وقلتُ بذاتِ الانفعالِ اللذيذ:
– حيفا!
– العالَم!
لم يشدّ رأسَهُ إلى الأعلى، ولم يقلْها بلهفةٍ وتفاخرٍ كما يفعلُ الواحد منّا عادةً حينما يكتشفُ حلقَةً جديدةً، وقلتُ باستهجانٍ خالٍ من الغضب:
– ما هذا؟
– العالم أكبر من حيفا
– مجنونٌ!!
– أخي سليمان قال ذلك البارحة.
– هل تصدّقُه؟
– إنّه في الصفّ الخامسِ!
– قلتُ باحتقارٍ لأخيه وللعالَم معًا:
– ما هو العالَم؟
– بلدٌ!
– أين هو؟
– بعيدٌ جدًّا.
– هل ذهبَ إليه؟
– كلا، ولكنّه يعرفُ.
– أخوك وسِخ.
– لا تشتمه، سأشتمُ أخاك أيضًا.
– لا تلعب معي.
– ولا أنتَ!
….
وكتب المعلّم في صدر اللوح "دين"، ثمّ وضع الطبشورة من يدِهِ ونفخَ على أطرافِ أصابِعِهِ وقال وهو يبتعد عن اللوح إلى ناحيتنا.
– من خلق العالَم؟
نظرتُ إلى أكرم وقد اتّسعت عيناي من الرعب واللهفةِ وبدأ قلبي يدقّ بعنفٍ نبالغٍ فيه، حاول أكرم أن يقولَ شيئًا. فلم يستطع. وبلع ريقه بصعوبةٍ.
-انتبهوا للسؤال التالي: في كم خلق الله العالَم؟
وقال المعلّم بتأنٍّ واستعلاءٍ:
– خلق الله العالَم في ستّة أيّامٍ
………………..
– يا حمار، إذا كان الله قد خلق العالَم في ستّة أيّام، فإنّ وادي النسناس وحده أكبر من العالم.
– وقال باهتمامٍ: لماذا؟
قلت بنفس الحماس الأرعن، وبنفس الشعور المتزايد من الرثاء للعالَم وله:
– كم بيتًا يستطيع الله أن يخلُق في اليوم؟
– وقال بلهجةٍ مقاطعةٍ، لا أدري لماذا:
– عشرةً!
ولم تهمّني مبالغتُه، وقلتُ بلهجةِ المنتصرِ:
– كم عشرة بيوت في وادي النسناس؟
….
(مقاطع من قصّة "انهيار"، مجموعة "الوجه والعجيزة")
فمن هو أحمد حسين؟
مختصرًا، هو الشّاعر أحمد حسين المولود في حيفا عام 1939، وشُرِّدَ منها عام 1948. ومنذ النكبة ما زالَ، كما يقول، "طفلًا ذبيحًا في التاسعة، وما زال دمُه يشخَبُ من جسدِهِ الذبيح" (رسائل على زجاج النافذة. أحمد حسين ص. 79)
"لقد سحقت مشاهد النكبة الفلسطينيّة طفولتي سحقًا. وحينما تحوّل الحزن والغضب في داخلي إلى وعي، بعد تخطّي مرحلة الدهشة وارتباك الموقف، لم أر في الكتابة وحدها، بجميع أشكالها، مكافئًا لفداحة النكبة وما تستدعيه من فداحة الالتزام. كان هاجسي الدائم هو رفض التعامل مع إملاءات المرحلة المداهمة، سوى ما يقع منها تحت طائلة القسر والإلزام" (مقابلة أجرتها معه رجاء زعبي عمري، "رسائل على زجاج النافذة. ص83. ) .
"ولدَتْكَ أُمُّكَ حيثُ أنتَ، وهذه حيفا تنامُ على وسامتِها كلؤلؤةٍ رماها البحرُ بينَ يديكَ،
إنَّ السَّبْيَ عارُكَ أنتَ، ليسَ السّبْيُ عارَ مواسمِ التّفاحِ،
فاصفَح عن مفاتِنها، وخلِّ الشِّعرَ يَحْسَبُ أّنَّها وطنٌ. (قرءات في ساحة الإعدام. ص. 10)
يصرّح أحمد حسين أّنَّ ما حصلَ لحيفا هو عارنا نحن، وليس العارُ عارَ مواسم التفاحِ، عارَ جمالِها ومفاتنِها اللذيْن أغويا بسبيِها.
وعلى هذا الأساس كانت عَلاقتُه معَ حيفا مصرَّحًا بها في الشّعر، علاقة مع كلٍّ كاملٍ، مع وطن، وليس مع جزء/مدينة، "وخلِّ الشِّعرَ يَحْسَبُ أّنَّها وطنٌ"، سيحتال على ما حصل بالشّعرِ ليحسَبَ حيفا وطنًا، وسيحتالُ على الشّعرِ فرغمَ أّنّها سُبيَت سيعتبرها في قصائده وطنًا لا سبيّة.
فهل يمكن لمدينةٍ أن تحتلَّ إنسانًا بكلِّ حيثيّاتها، وأن تتحوّلَ حزنًا مستقرًّا، وذاكرةً وحياةً وقصيدةً؟
"ولكنّ القصيدةَ لا ترى سببًا لتأتي.
ما كنتُ أحزنُ كلَّ هذا الحزنِ
لو أنّي سأحزنُ بعدَ موْتي.
ألأنَّ حيفا لم تعُدْ بلدًا
أموتُ بدونِ ذاكرةٍ
ولا شيء أغادرهُ، كأنّي لا أغادر!
إنّي قُتلتُ
ولم أعدْ جسَدًا لغيرِ سيوفِهِمْ
(ما لي وأسبابِ الوفاةِ
لكلِّ قبرٍ قصّةٌ)
لكنّني زمنٌ وحادثةٌ وشاعرْ. (قراءات ص. 112-113)
نرى أنَّ عدمَ قدرتِهِ على الحزنِ بعدَ الموتِ أعطاهُ سببًا ليحزنَ في حياتِهِ، فهو مرتبطٌ في الزمن والأحداث التي أسقطَها في قصائدِهِ غضبًا وحزنًا ومشانقَ يعدم عليها وجعَه المنتظِرَ رصاصةَ الإعدام، لكنّا نعلم أنّه لا شيء يدور خارج حيثيّات المكان، لذا كانت حيفا، لكنّها لم تحبس نفْسَها على مساحةٍ جغرافيّةٍ وحدودٍ وهميّةٍ، بل تجلّتْ أرقًا دائمًا يشعل القصيدةَ، بأمومتها، بأنوثتِها، بعشقها، بظلمها، بانفصامها وانقسامها، ببرّها وبحرِها، بموجِها ورملها ومينائها ورحيلِ أهلها:
بحضنِكِ يقرأُ المينا دفاترَهُ ويرتعدُ
لماذا يهجُرُ الصيّادُ مَرْكِبَهُ ويبتعِدُ
بلا سببٍ،
وكيفَ انسلَّ مِنْ أجراسِهِ الأحدُ؟
وكيفَ يهاجرُ الأطفالُ من جيلٍ إلى جيلٍ وما وُلدوا؟ (قراءات ص. 17-18)
وهل يمكن للشعرِ وللقصيدةِ أن تتّسعَ لمدينةٍ لها تاريخُها وذكرياتُها وماضيها وحاضرُها ومستقبلُها؟
"الشعر مثل جميع الفنون الأخرى، ليس لغةَ «الإنسان الأسمى». إنّه لغةُ الحضارةِ في تجلّياتها الإبداعيّة والمعرفيّة من خلال وليدها التاريخيّ، الذي هو الإنسان، حركةٌ في اتّجاه التغلغل في الوجود الواقعيّ والتجربة الإنسانيّة، وليس الابتعاد عنهما" (أحمد حسين، رسائل على زجاج النافذة) فهل حيفا، إذًا، مجرّدُ مكانٍ ذاتِ أبعادٍ هندسيّةٍ طبوغرافيّةٍ تحكمها المقاييس والحجوم؟ وهل حيفا هي الإطارُ أو الحيّزُ المكانيّ الذي تقعُ فيه الأحداث والذكرياتُ، ومحكومٌ بظرفيّتِهِ؟ وهل حيفا هي التاريخُ الذي مرّت به، أمِ الجغرافيا ببحرها وكرملِها ومينائها ومحطّةِ قطاراتِها على طريقِ الرحيل والعودة؟ كيفَ تتجلّى حيفا في شعر أحمد حسين، وكيف نشأت هذه العلاقة بينهما؟ وكيفَ أصبحَتْ حيفا جزءًا من التجربة الذاتيّة بعد أن فقدت صفاتِها الواقعيّةَ ارتباطًا باللحظات النفسيّة والشعوريّة للمجرّب/الشاعر؟ فأيّ حيفا أحبَّ الشّاعر؟والإجابةُ جاءَت في رسالته إلى محمود درويش:
…"وإنّنا لا نستطيعُ أن نكرَهَ أشجارَنا لأنَّ الغرباءَ علّقوا عليها أراجيحَهم، كما إنّنا لا نستطيعُ أن نكرهَ حيفا لأنّها غادرَتْ ملامحَها". (رسائل على زجاج النافذة، ردّ على محمود أثر رسالته الصوتيّة بمناسبة تأبين توفيق زيّاد ص. 22).
حبُّهُ لحيفا مستمرٌّ، وعمرُهُ متوقّفٌ عند يوم الهجرة 1948:
"الوقتُ ملتفٌّ على جِذْعِ الخرافةِ كالسّكوتْ.
تتكرّرُ الغزَواتُ والساحاتُ مِنْ بدرٍ إلى بدرٍ،
وبدرٌ لا تفوتْ.
صنعوا المكان لكيْ أُحبَّكِ والزمانَ لكيْ أموتْ" (قراءات ص. 14)
حيفا هي المكان الذي يحبُّه، والزمان هو ذاكَ الذي توقّف عنده ولم يكبر، عام 1948، فها هو يجرّدُ من نفسِهِ طفلًا صغيرًا، هو ذاك الطفل الذي لم يكبر:
"طفل يبادلني حكايَتَهُ الصغيرةَ بالبكاءْ
أعطيتُهُ طاقيّةَ الإخفاءِ دلّتْهُمْ عليهِ ملامحي الثكلى
ورائحةُ الدماءْ،
ألقى حكايتَهُ الصغيرةَ واحتمى بملابسي،
الأمُّ أقسى الكائناتِ وأظلمُ الناسِ النساءْ" (قراءات، ص. 15)
تتحوّل حيفا إلى الأمِّ التي تخلّت عن الطفل الذي أحبَّها، فعرف بأنّها أقسى الكائنات، وبأنّها كامرأة هي أظلم النساءِ، أحمد الطفل لا يريد أن يغفر لمن أفقدهُ طفولتهُ، ويضع اللوم على حيفا الأمّ التي ارتعبَت حينَ هزموا أباه، فكيف كان هذا الطفل، وماذا فعل في حيفا، ليحزنَ كلَّ هذا الحزن؟
"هل تذكرينَ؟ أنا الذي صادَفْتِهِ
يبني على شَفَةِ الخليجِ مَساكِنا
وأنا الذي ملَاَ الزُّقاقَ طفولةً
زرَعَتْ كوابيسَ النيامِ مآذِنا
وتحدّثَ الحيرانُ عن نزواتِهِ
وتعلّمَ الأطفالُ منهُ الميجنا
وأنا الذي صدَّ العِدى عن حيِّهِ
وحمى طريقَ "الفرنِ" مِنْ أعدائِنا
لكنّهم هزموا أبي فترنّحَتْ
مِن رعبِها حيفا على أقدامِنا
سقطَتْ على درج "الهدار" طفولتي
لمّا ارتمى الزلزالُ في ساحاتنا
وتناثرَت مثلَ الزجاجِ ملامحٌ
غصّتْ بها قبلَ الرحيلِ سِماتُنا
أُعطيكِ روحي لو بقيتِ أنا وأنتِ لوحدِنا. (قراءات ص. 39-40)
هكذا نجدُ أنَّ المكانَ في النصِّ الشّعريِّ ينفصلُ عن سياقِهِ الجغرافيّ، ويُضخُّ في قالبٍ جديدٍ تحكمه المشاعر والتجربة والذكريات والعلاقةُ والواقع والمتخيَّل، لذلك تتحوّل حيفا إلى قهرٍ وحبٍّ ووطنٍ ومهجَرٍ ومرفأٍ ومرحَلٍ، وتتحوّلُ حيفا إلى امرأةٍ عاشقةٍ، معشوقةٍ، ظالمةٍ، وإلى رجلٍ/ ذاتٍ حين تصل حدَّ التماهي مع الشاعر. إنّ ما يميّز شِعريّةَ المكانِ أنَّهُ يقع بين بُعدَيْن: البعدِ الشّعريِّ الذي يتحكّم فيه الخيال والرؤى والمجازُ ليمنحَهُ تأثيرًا جماليًّا، والبعدِ الثاني التأويليّ المتعلّقِ بالقارئ وثقافته وتجربتِه ومفاهيمِه وأحاسيسِه وأسس نقدِهِ. وعلى هذا الأساس ستكون ورقتي مختصرة عن حيفا في شعر أحمد حسين، رغم أنّه موضوعٌ لا تتّسعه عجالة وقتٍ محدودٍ، لاتّساعِ العلاقة بين هذا الشاعر وهذا المكان.ويُسألُ السؤالُ هل كانت حيفا امتدادًا لصورةِ المكانِ ومعناه في الشّعرِ العربيِّ؟ فحين افتتحَ سِفر الشِّعرِ العربيِّ، وقف الشاعرُ العربيُّ وأوقَفَ أصحابَه واستبكى على الأطلال، "قِفا نبكِ مِن ذكرى حبيبٍ ومنزلِ…"، فهل غادرْنا الأطلالَ أم أنّ حكايتَنا معَ الفراقِ سِمةٌ مِن سِماتِ حزننا المتواصلِ بحثًا عن مكانٍ ندقُّ فيه أوتادَ خيمتنا الشَعريّة، وهل لزامٌ على الشاعر العربيِّ أن يبكي حضاراتٍ عاشها وفقدَها في غفلةِ حربٍ؟ وأحمد حسين بكى أطلال حيفا متابعًا مسيرة الشاعرِ العربيِّ الذي لو انصرفت غايتُه عن الوصف الحسيّ، لم تنصرف عن فلسفة التحوّل، و الزوال، والفناء.
لقد كتبَ أحمد حسين: "وأقول شعرًا لا لكي تصلوا إلى حيفا، ولكن كي تروْها"، فأيّ حيفا يريد أن يرى؟ وكيفَ سيدلّهم شِعرُهُ عليها:
– أنا ليس لي علَمٌ ولا سَفَرٌ، ولا شجرٌ أعلّقُ الأحزانَ فيه، ولا أنا سوى ما يحسبُ السّجّانُ، فاعترفي بأنّكِ مُتِّ، وانصرفي!
سأكتبُ ما تيسّرَ من عناوينِ القبورِ بدفترِ الأوقاتِ، إنَّ القبرَ أشجى من معلَّقةٍ، وأبقى من مدينة.
لن يعرفوا حيفا إذا رجعوا،
فكيفَ يدلُّهم شِعري إذا لم ينظروا في معجمِ النكباتِ،
هذي الأرضُ لا تأتي إلى أحدٍ،
وتقتربُ المنافي في مساحات الفراق كأنّها وطنٌ،
وفي الأيّامِ تختبئ المواعيدُ التي تتحيّنُ الأقدامَ
والطرقُ الهجينة.(قراءات ي ساحة الإعدام، ص. 9)
نرى في المقطع السابقِ أنّ نظرةَ الشاعر إلى الأماكن المعهودة وغير المعهودة هي وليدةُ علاقتِه بحيفا؛ وأنّ علاقتَهُ في الحياةِ والوجودِ وقفٌ على علاقتِه بحيفا:
"لقد بلِيَتْ عليَّ معاطفُ الرّغباتِ، لا برٌّ يطاوعني إلى حيفا ولا بحرٌ يناولني سفينة." (قراءات ص. 7)
كلُّ رغباتِه بليت واهترأت كالمعاطف القديمة، لأنّه لا يستطيعُ الوصولَ إلى حيفا لا برًّا ولا بحرًا، وفي مفاضلةٍ بسيطةٍ بين حيفا اليوم، وحيفا التي أحبّها، يرى أنَّ القبرَ أشجى من معلّقةٍ، فهو يعلّق أحزانَه على شاهد القبر، كما عُلّقت المعلّقات على أستار الكعبة، فالقبر أبقى من المدن، المدينةُ عند الشاعر ليست المكانَ الجغرافيَّ، هي كينونتُه ووجودُهُ، فالمكانُ هو المتلازم الأهمُّ مع فكرة الوجود؛ فلا وجودَ خارجَ المكان، والكون مكان مطلق، تعجز عن حدوده المقاييس والأزمنة.نجدُ الشاعرَ يتدرّج في تعاملِه وفي عَلاقته مع حيفا:يريدها وطنًا متخيَّلًا في الشِّعرِ، لأنّه في الواقع لا يستطيع تقبُّلِها على ما هي عليه، يستعمل الشّعرَ كآليّة تعويض، تعوَّضُهُ عن فقدان الوطن المفروض عليه، الوطن الجديد الذي يرفضه ولا يريده في خارطته:
– وطنٌ يطلُّ عليَّ مِنْ فَرَحِ "الفلاشا" لا أريدُهُ.
وطنٌ يُطلُّ عليّ من صخرٍ منَ القفقاسِ، مِنْ عينيْنِ مثلِ الغابةِ البيضاءِ، تهربُ منهُما البجعاتْ، أثمنُ منهُ أحزاني،
ليمضِ إلى خرائطِهم فإنّي لا أريدُهْ.
وهو يتدرَّجُ في الرفضِ وفي الغضِبِ، حتّى يصلَ إلى قرارٍ، إلى حلٍّ إلى انفصالٍ عن هذا الوطن، وإلى انفصامٍ، يصل إلى قرار التقسيمِ:
وطنٌ يناديني بغيرِ اسمي ويُطلقُ حولَ وجهي الشائعاتِ، أحقُّ منهُ قصيدَتي بدمي،
خذوهُ إلى جَهَنّمَ، لا أريدُهْ.
وطني | أنا وطني |
لهم برٌّ | ولي برٌّ |
لهم بحرٌ | ولي بحرٌ |
لهم زمنٌ سيقتُلُني | ولي زمنٌ سيحملُني بَعيدُهْ. |
وبعد الانفصال تهون عليه حيفا وتصبحُ امرأةً لكلِّ الناسِ، ويريدُ حقَّهُ فيها:
يا امرأةً لكلِّ الناسِ خلّيني أُزاحِمُ مثلَ غيري.
…..
يا امرأةً لكلِّ الناسِ شُدّيني لوصلِكِ مِن عذاباتي
وخلّيني بعيدا.
وما كان من حيفا إلّا أنْ واصَلَتْهُ، ولكن بالغزوِ:
واصَلْتِني بالغزوِ، لمْ أعرِفْ سوى ألَمِ العناقِ،
فأعطِني ألَمًا جديدا
بسبب الفقدان والحزنِ والغضبِ، يجعل نفسَه وطنًا، يجد البديلَ داخلَهُ، يتماهى ليصبِحَ يافا ويصبح حيفا، هو ثابتٌ كالمكان:
أهديْتُها شجرًا وأطفالًا | فأهدَتْني مشانقْ. |
أهديْتُها شِعرًا وأعراسًا | فأهدَتْني ثكالى. |
لو كنتُ أقدِرُ أن أفارقَ | كيفَ أقدرُ أنْ أفارقْ؟ |
هل فارقَتْ يافا الجنوبَ | وفارَقَتْ حيْفا الشَّمالا؟ |
وتصبحُ حيفا وجعًا وآهًا، وتصبحُ حيفا اثنتيْن، وتلتبس الأمورُ على الحقّ التاريخيّ:
دندنا دندنا
هذه الأرضُ لكمْ
هذه الأرضُ لنا
ذاكَ أو ذاكَ سوًى
نحن لا نعرفنا
صدق الله ولكنْ
قد وُلِدْنا ها هُنا.
.ويدندن الشاعرُ ويدندنُ في طريقِ رحيله من حيفا، ويتمنّى أن يكونَ هو وهي وحدهما، ويكرّر هذه الجملة/الموتيف:
أعطيكِ روحي لوْ بقيتِ أنا وأنتِ لوحدِنا،
…..
…..
وما بين سفينة نوح وحمامةِ نوح، تصبح حيفا بمثابة سفينة النجاةِ لهم، ولكنّها بالنسبةِ للشاعرِ حمامةُ سلامٍ لا ترى سوى أحزانِنا غصنًا، فلا تحطُّ إلّا في أحزانِنا، وحيفا صبابتنا وعشقنا وأمّنا وفراقنا، ونهايةُ دربِنا، وبدايةٌ لجيلٍ جديدٍ ليسَ من أبنائِنا:
الأرضُ أوطانٌ وأنتِ سفينةٌ
في بحرِهِم، وحمامةٌ في برِّنا
تدنو وتبعُدُ لا ترى غُصنًا سوى
أحزانِنا، فتحُطُّ في أحزانِنا
حيفا صبابتُنا وحيفا لهوُهُم
حيفا مدينتُهم وحيفا أمُّنا
حيفا تفاصيلُ الفِراقِ تدُبُّ في
أجسادِنا، وتمرُّ مِنْ ساعاتِنا
حيفا نهايةُ درْبِنا، وبدايةٌ
أخرى لجيلٍ ليسَ من أبنائِنا.
بناءً على الأبياتِ السابقةِ تبيّن أنّ للمكانِ دلالاتٍ متنوّعة، فهو تلك الجغرافيا الممتدة تاريخًا وواقعًا وواقعةً، ومثلما يمتلك دلالتَه على الصعيد النفسيّ والشخصيّ، فهو يمتلكُ دلالتَه الأيديولوجيّة والاجتماعيّة.وماذا تفعل امرأتان في قصيدةٍ واحدةٍ؟ امرأةٌ من حيفا وامرأة في حيفا؟فتلكَ المرأة التي من حيفا:
صنعَتْ لها سفَرًا لتبعِدَني
وأوطانًا لتنسى،
كلُّ الذينَ عشِقْتُهُمْ
كانوا قراصنةً عليَّ
وكنتُ حيفا.
يشبّه الشاعرُ نفسَه بحيفا، فكلّ الذين عشقَهم، كانوا قراصنةً عليه، سرقوا مشاعره وأحاسيسَه وكينونته، وتركوه. يتماهى الشّاعر مع حيفا بحثًا وراء محبوبتِهَ، التي سَرعان ما نكتشفها، فما هي إلّا حيفا:
ولديَّ وجْهُ مسافرٍ، طبعَ الحنينُ عليهِ كلَّ
ملامحِ العشّاقِ
ضمّيهم لصدرِكِ، أنتِ حيفا
وأنا جميعُ العائدينَ إليكِ من أسفارهم قتلى وجرحى. (قراءات ص. 92)
هذه المرأة التي من حيفا تتحوّل رويدًا رويدًا إلى حيفا حبيبة الشاعر الغائبة، التي تعذّبه بغيابها فيتساءَل:
ماذا يريد غيابُها منّي!
أريد عناقَها لأموتَ فيه، وساعدَيْها لاحتضاري.
….
ماذا يريد غيابُها منّي!
وقد صار الخروجُ من السرير لضرفةِ الشُّبّاكِ منفى.
والخروج من القصيدة صار منفى.
إذًا يستعيض عن وطنه الضائع وعن حيفاه الضائعة بالقصيدة، تصبح القصيدةُ وطنًا لتحميه من غياب حيفا عنه، وتكمن المفارقة في المرأة الثانية، تلك التي في حيفا، فهي وطن لساعة
ويكفي بأنّ لها بلادًا كي تسافرْ
ولها ملامحَها وأعيادًا ومدرسةً وقنبلةً ومستشفى وبوليسًا وشاعرْ.
من هاتيْن المرأتيْن نرى حجمَ مأساةِ الشّاعر، فالمرأة الحيفاويّة، المحبوبة، تلك التي من حيفا سافرت وصنعت لها أوطانًا جديدة لتبعِدَني عنها، وتلك التي في حيفا "هي امرأةٌ من الضوءِ الذي تُلقي به الحاناتُ ملفوفًا برائحةِ الجماع" (قراءات ص. 97)، بهذه المقارنة البسيطة بين الاثنتين يعرّي الشاعر واقعًا صعبًا، واقعَ حيفا بين تاريخيْن؛ قبل 1948وبعد هذا التاريخ.حيفا الأمّ، المرأة، العشيقة، أرض كنعان، فلسطين.هي قراءة إشعاعية"Spectrale" انداحت دوائرها من مركز المدينة إلى حوّامةِ البحرِ، رمى فيها شاعرُنا أحمد حسين حجرَ حزنِهِ، فنشأت مجموعة من الدوائر التي تزداد اتّساعًا، حيفا المدينة المسبيّة، حيفا الحزن، حيفا الحبيبة، حيفا العشيقة، حيفا حبّهُ الأزليّ الذي أغلق عليه بابَ القلبِ:
الوقتُ مذبحةٌ، وبي شوقٌ لهاويتي وأشواقٌ إليكْ.
لكِ ضجعةٌ كالسيف بينَ الماءِ الصحراءِ، لا يدري مُحبُّكِ
أيَّ يوميْهِ لديْكْ.
في وجنتيكِ الصدُّ والتقبيلُ،
ليسَ الصدُّ يبعدني ولا التقبيلُ يُدنيني، فبابُ القلبِ منغلقٌ عليكْ.
نرى أنّ للمكانِ سطوتَهُ وقسوتَهُ، فجيعتَهُ وفاجعَتَهُ، للمكانِ في الشّعرِ مساحةٌ أكبر من جغرافيّتِهِ، وحجمٌ ثلاثيّ الأبعادِ؛ رؤيةً وتخييلًا وواقعًا، وتاريخٌ تنداحُ دوائرُهُ وتتواصلُ وتنغلِقُ لتخنُقَ المكانَ، لكنَّ من له بحرٌ لا تنغلق عليه الدوائر، لأنّهُ مكانٌ مسافرٌ هائجٌ مائجٌ يوصِلُ أحمد حسين حدّ الشّعريّة ِ القصوى والانزياحات الأحلى، ويتركنا مدهوشين من سطوةِ المكانِ على تضاريس القصيدة، وسلطةِ المكانِ على المشاعرِ.
نصّ الورقة الّتي قُدّمت في مؤتمر "حيفا بالعبريّة، حيفا بالعربيّة" – بمبادرة قسم اللّغة العربيّة، جامعة حيفا ومعهد فان لير، في 5-5-2015.
يمكنكم مشاهدة وسماع المحاضرات على الرابط التالي:
د. راوية جرجورة بربارة
[foldergallery folder="wp-content/uploads/articles/191755367620150806014605"]