إِشْتَقْتِلَّك – د. خالد تُركي – حيفا

مراسل حيفا نت | 24/04/2009

أربعون ليلةً دامسةً مرّت بدونك ويا حسرتي.

أربعون دَيجورًا مرّ علينا وأبو عايدة غائب عنّا ويا لوعتي.

فكما تعلّمنا في الصّفوف الأولى أنّ القمر يغيب عن فضائنا ليلة واحدة في الشّهر القمريّ، ويكون في حالة مُحاق، لكنّ مُحاقَنا هنا أربعون ليلة، فحتّى في غيابك تكون فوق المألوف والعادة والتّقليد، لأنّك مُتَميِّز.

متميِّزٌ حتّى في يوم غيابك الذي صادف الثّامن من آذار يوم المرأة العالمي وذكرى المؤتمر السّوري العام الذي اختار الملك فيصل الأوّل ملكًا على سوريا ومتميِّز في الأربعين لصعودك الذي يتزامن مع ذكرى جلاء المستعمر الفرنسي عن الوطن سوريا ويوم الأسير الفلسطيني وقيامة السّيّد المسيح من بين الأموات، فنحن هنا أخوة في الدّم والمصير لا يُفرّقنا دينٌ ولا يُباعدُنا حدٌّ، فقد وقف الثّائر السّوري فارس ألخوري وقفته الشّجاعة في الجامع الأمويّ مُعلنًا على الملأ أمام أهالي دمشق قائلاً: أنه إذا كانت فرنسا تريد البقاء في سوريا لحماية المسيحيين فإن جميع المسيحيّين هم مسلمون وجميع المسلمين هم مسيحيّون… وأن سوريا بمسلميها ومسيحييها هي وطن واحد لشعب واحد،  إعتقادًا منهم أنّ مكان العرب المسيحيّين مع فرنسا وليس مع الحركة الوطنيّة السّوريّة وفي هذا السّياق يقول شهيدنا داود تركي:

الشاعر المناضل الراحل داود تركي 

في عُرْفِنَا الإنْسَانُ قِيمَتُهُ

أَغْلَى مِنَ اليَاقُوتِ وَالذَّهَبِ

وَيَهُودُ هَذَا الشَّرْقِ إخْوَتُنَا

عَرَبٌ كَكُلِّ القَوْمِ في الحَسَبِ

لا فَرْقَ في دِينٍ، يُوَحِّدُنَا

وَطَنٌ شَريفُ القَوْمِ وَالنَّسَبِ

أربعون غرابًا ينعق في سمائنا بعد أن غاب عنّا صقر البلاد أربعين غروبًا.

أربعون يومًا لم نرَ فيها سوى الحنين والأنين واللهفة والشّوق المرهَف والمرهِف للقائك. لم نعتد ولم تُعوِّدنا على غيابك ولم نتعوّد على هذا الفراق الطّويل منذ تحريرك، إِشْتَقْتِلَّك.

أين أنت الآن؟ أسألُكَ سؤالاً أعرف جوابه بسؤالٍ افتراضيّ، هل تجاورك النُّجوم والكواكب والقمران وأنت في قُبّةِ فلسطين، في قُبّةِ هذا الجزء الجريح النّازف من وطننا العربي؟ هل رأيْتَ وأنتَ في راحتك الخالدة والأبديّة أحد عشر كوكبًا والشّمس والقمر يسجدان لهذا الغياب الأليم والقسري، هل أرسلت لنا تحيّاتك عبر الشّهب التي حين أراها نازلة من قلب السّماء أطلب عودتك السّريعة إلينا، هل أُصدِّق ما قيل لي عندما كنت صغيرًا أنّ الأماني تتحقّق إذا ما تزامنت، حصرًا، مع سقوط الشُّهُب، أم أنّها خرافة لا يعرفُ أحدٌ مدى صدقها، فكم شهابٍ رأيتُ وكم مرةٍ تمنّيتُ مع رؤيتي وكم مرّةٍ خُذِلْتُ وخذلني رجائي وسؤالي، وكم أخلفت الشُّهُبُ وعدَها، إِشْتَقْتِلَّك.

هل أنت حاضرٌ في راحتك الأزليّة؟ خالدٌ في جنّتك الحتميّة؟ أم أنّك تجمع قواك لتستولي على الشُّهُبِ بعد أن رأيت في حاضرنا ظلمة حالكة  لتُضيء لنا ليالينا الظّلماء لنهتدي إلى الطّريق الّتي لولاك ما كُنّا لِنهتَدي إليها وما كُنّا أقوياء ونجد

طريقنا القويم لننبذ درب الضّلال، إِشْتَقْتِلَّك.

تُرى هل ستقتُلُ الذّئبَ يا أسد الأسود في صحرائنا القاحلة أم ستُخرج يوسفُ من الجِبِّ كما جاء في رواية إخوته وهل ستكشف جريمة أخوةِ يوسفَ وكذبهم ونفاقهم أم أنّ غيابك سيُبقينا تائهين في الصّحراء لا نعرف مكان وجود أخينا، يوسفَ، وهل ستطاردُ غربانَ نوح بعد انتهاء الطّوفان يا صقر فلسطين لتحمي الحمام في وطن الزّيتون الأخضر؟ فيطير الحمام في الفضاء ويحُطّ الحمام على الأغصان والتِّلال والرّوابي، كما يشاء حرًّا طليقًا في الفضاء، فإن كان على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة كما قال محمود درويش فإن أبا عايدة يقول في كتابه "ثائر من الشرق العربي": يأتي الإنسان إلى هذه الدّنيا وفي يمينه الحقُّ في العيش العزيز والحياة الحُرّة الكريمة، سواء وَضُعَ أهلُه أو شُرِّفوا. ومن لا يُدافع عن هذا الحقِّ إذا تعرّضَ لاعتداء المعتدين الغاشمين لا يستحقّ الحياة وعيشها.

فالحياة تستحقّ منّا أن نُدافع عنها ونصون ترابها ونحميها من الشّوائب والنوائب، فهذا هو حقّ الحياة منّا وعلينا، إِشْتَقْتِلَّك.

فكما جاء في قصيدتك يا أبا عايدة أنا يعرُبيُّ النّفس:

وَدِمَشْقُ عَاصِمَةُ النُّهَى أَبَدًا

وَلَهَا وَفَائِي سَيِّدُ الدَّأَبِ

وَطَنِي فِلَسْطِينُ وَرَمْلَتُهَا

هِيَ أَوَّلُ الشَّامَاتِ فِي الشَّلَبِِ

مَاضٍ، أَحُثُّ السَّيْرَ مِنْ صِغَرِي

لِفِدَى ثَرَاهَا الغَضِّ وَالرَّطِبِ

إِشْتَقْتِلَّك.

عندما يُقال أنّه وراء كلِّ رجل عظيم امرأة، أقولُ كُنّ وراءك، يا سيّدَ الرّجال، أربع فارسات قدّيسات، هنّ أم عايدة وعايدة وجورجيت ونضال، كنّ معك كأصابع اليد في قبضة السّيف واحدة وفي الحفاظ على الجمرة واحدة وفي بناء عزّة العرين واحدة، حيث قدّمن الغالي قبل الرّخيص لتبقى عزيزًا شهمًا صامدًا

مرفوعَ الرّأس والهامة، عالي الجبين والقامة ثابت اليقين، أنّ الظّلم زائل والاحتلال

في زوال، فكنّ مثلاً ومثالاً في التّضحية والإيثاريّة والتّفاني والمحبّة والإخلاص والخدمة، إشْتَقْنَالَك.  

وستبقى يا أبا عايدة مفخرتنا وفخرنا وصخرتنا وذخرنا وعزتنا وعزّنا وذكراك

ستبقى النّاقوس في عالم النّسيان لمن يتناسى أو يهوى النّسيان ونذكّر لأنّ الذّكرى

تنفع المناضلين الأحياء والشّهداء. فأنت القائل في الشّهيد أحمد شكري منّاع في استبساله على أسوار عكّا ضدّ المُحتلّين يوم احتلالها:

مَا مَاتَ مَنْ خَلَدَتْ مَآثِرُهُ

بَلْ مَاتَ منَْ سَفِلَتْ بِهِ الشِّيَمُ

سَيَظَلُّ لِلأَحْرَارِ مَفْخَرَةً

وَمَنَارَةً في الفِكْرِ تَنْتَظِمُ

فالمَجْدُ لِلشُّهَدَاءِ يَهْتِفُهَا

رَجُلٌ بِدُنْيَا الظُّلْمِ يَصْطَدِمُ

لأنّ الشّهداء أكرم من في الدُّنيا وأنبل بني البشر.

فأنتَ رجلُ الرّجالِ وبطلُ الأبطالِ وماجد الأمجاد وحرّ الأحرار ونور المنارة وصدر الصّدارة، إِشْتَقْتِلَّك.

وفي النهاية اسمحوا لي أن اشكر باسم عائلة فقيدنا المناضل كلّ من واسانا في مصابنا الجلل من حضور الجنازة أو المشاركة في التّعازي مباشرة أو عبر الصّحف أو البريد الالكتروني أو إرسال أكاليل ورد أو برقيّات.

شكرٌ خاصٌّ لصاحب منتزه "السّندباد" السَّيِّد إبراهيم خطيب (أبو ثائر) والفنّان وائل واكيم الذي صمّم كتاب التّأبين ولفرقة "العودة" على مشاركتها في إنجاح هذا المهرجان ولشركة العربي للدّعاية والتّسويق لرعايتها جميع إعلانات هذا الحدث الجلل ولجميع الرّفاق الأسرى المحرّرين الذين ساهموا في إنجاح هذا العمل الجماهيري الواسع.

الحريّة لسجناء الحريّة.

والمجد والخلود لشهداء امّتنا الأبرار.

أُلقيت هذه الكلمة في المهرجان التأبيني وفي يوم الاسير الفلسطيني الذي عقد في منتزه السندباد أول أمس

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *