عيد الأعياد: حين تتحوّل القيم الجميلة إلى عبء يومي على السكان
يُقدَّم عيد الأعياد في حيفا، عامًا بعد عام، كحدث ثقافي جامع، يحمل شعارات التعددية والعيش المشترك. لكن خلف هذه الصورة المُلمّعة، ثمّة واقع مختلف يعيشه آلاف السكان، خصوصًا في الأحياء التي تتحمّل العبء الأكبر من الحدث، وعلى رأسها وادي النسناس ومحيطه.
المشكلة ليست في الفكرة ولا في القيم التي يُفترض أن يمثلها العيد، بل في الثمن اليومي الذي يدفعه الناس مقابل استمرار هذا النموذج من الاحتفال، دون مراجعة جديّة أو حلول حقيقية.
حياة معلّقة لأيام
خلال فترة العيد، تتحوّل الحياة اليومية للسكان إلى معاناة متواصلة:
شوارع مغلقة، ازدحامات خانقة، صعوبة حقيقية في الوصول إلى البيوت، تأخير في العمل، إرباك لكبار السن، وقلق دائم لدى العائلات.
الحديث هنا ليس عن “إزعاج عابر”، بل عن شلل شبه كامل لأحياء سكنية مكتظة، في مدينة تعرف مسبقًا حجم الحدث وتداعياته.
الحدث الذي يستقطب عشرات الآلاف من الزوار يُقام في أزقة ضيقة وبنية تحتية محدودة، لم تُخطَّط لاستيعاب هذا الضغط. والنتيجة معروفة سلفًا: السكان يدفعون الثمن، كل عام، تقريبًا بالطريقة نفسها.
نجاح لمن؟
غالبًا ما يُوصف عيد الأعياد كقصة نجاح حضرية وثقافية.
لكن السؤال الذي يتجنّب كثيرون طرحه بصدق هو: نجاح لمن تحديدًا؟
للزائر الذي يقضي ساعات في أجواء احتفالية ثم يغادر؟
للمؤسسات التي تُظهر الحدث كواجهة تسويقية؟
أم للسكان الذين يجدون أنفسهم محاصرين داخل بيوتهم، بلا مواقف، بلا طرق مفتوحة، وبلا بدائل حقيقية؟
حين يُقاس “النجاح” بعدد الزوار فقط، ويتم تجاهل جودة حياة السكان، يصبح الحديث عن النجاح ناقصًا، بل ومضلّلًا أحيانًا.
حلول مكرّرة… ونتائج معروفة
طُرحت على مدار السنوات اقتراحات كثيرة: نقل فعاليات، تنظيم أفضل، تقليص المدة، سفريات منظّمة.
لكن التجربة أثبتت أن هذه الخطوات لم تُحدث تغييرًا جوهريًا.
نُقلت فعاليات، فعاد الجمهور إلى مركز الحدث.
قُلّصت المدة، فازدادت الكثافة.
نُظمت سفريات، وبقي الازدحام كما هو.
ما يحدث فعليًا هو إدارة للأزمة، لا حلّ لها.
ومع كل عام، تتكرر المعاناة، وتتكرر الوعود.
حين تُستَخدم القيم كغطاء
الأخطر من الازدحام نفسه، هو استخدام القيم الإنسانية الجميلة — التسامح، العيش المشترك، التعددية — كدرع يمنع أي نقد.
كل اعتراض يُصوَّر أحيانًا وكأنه رفض للقيم أو للآخر، بينما هو في جوهره مطالبة بحق أساسي: العيش بكرامة داخل الحي.
لا يمكن مطالبة الناس بتحمّل العبء باسم القيم، فيما لا تُبذل جهود كافية لحمايتهم من تبعات الحدث.
وفي المقابل …
هناك من يرى في عيد الأعياد قصة نجاح حيفاوية، وحدثًا إيجابيًا يحمل رسائل إنسانية تتجاوز الطقوس الدينية صارت مدن كثيرة تحاول اليوم تقليده، وتصرف الملايين لاستقطاب الزوار كما يحدث في عيد الاعياد في مدينة حيفا !!!
من يؤيد هذا التوجه يشيرون إلى أن العيد يستقطب أهالي وسكانًا وزوارًا يؤمنون بالعيش المشترك، ويرفضون العنصرية، ويختارون الحضور إلى المدينة والاحتفال فيها.
ويُستشهد في هذا السياق بمشاهد باتت مألوفة خلال العيد:
شجرة الميلاد إلى جانب الشمعدان والهلال، زوار يدخلون الكنائس ويتعرفون على طقوسها، شوارع مزينة، أسواق ميلادية، فعاليات ثقافية وفنية في المراكز الجماهيرية، وأجواء احتفالية تُعرض كوجه إيجابي وإنساني لحيفا، في وقت تشهد فيه الساحة العامة توترًا واستقطابًا متزايدًا، واجواء عنصرية مشحونه مليئة بالكره والحقد والضغينة.
من هذا المنظور، يُنظر إلى عيد الأعياد كرافعة ثقافية واقتصادية، وكمساحة نادرة يلتقي فيها المختلفون، ولو مؤقتًا، خارج الانقسامات السياسية والطائفية.
و يشيرون إلى أن العيد يستقطب أهالي وسكانًا وزوارًا يؤمنون بالعيش المشترك، ويرفضون العنصرية، ويختارون الحضور إلى المدينة والاحتفال فيها، وان عيد الاعياد هو صورة متكاملة وجميلة للاحياء والجادة والكنائس المزينة والفعاليات الجميلة والتي جميعها تأتي في اطار عيد الاعياد كبرنامج شامل.
خاتمة: المعاناة ليست تفصيلًا
عيد الأعياد لم يسقط من المريخ، ولم يفاجئ أحدًا.
هو حدث معروف، ثابت، ومتكرر.
ومن يجد الوقت للتجول والكتابة أثناءه، يجدر به أن يجد وقتًا بعد انتهائه للتخطيط المهني واتخاذ قرارات قد تكون صعبة — وربما مؤلمة — لكنها أكثر عدلًا وإنصافًا.
وفي النهاية، يُترك الحكم للقارئ، وللنقاش العام:
كيف يمكن إدارة حدث متعدد القيم… دون أن تتحول قيمه إلى عبء على من يعيشون في قلبه؟
لكن استمرار النموذج الحالي يعني أمرًا واحدًا: استمرار معاناة السكان، واستمرار اطلاق التصريحات عبر صفحات التواصل بدل خطوات حقيقية وفعلية.
النجاح الحقيقي لا يُقاس بعدد الصور والمنشورات، ولا بحجم التوافد الجماهيري،
بل بمدى احترام حياة الناس الذين يعيشون في قلب الحدث.
وهنا يكمن الفرق الجوهري بين طرح عملي، واقعي، ومسؤول يسعى إلى معالجة الإشكاليات بصدق لبين العشوائية.
عيد الأعياد بحاجة إلى قرارات مهنية شجاعة، تُتخذ بعيدًا عن النفاق المجتمعي، وإلى تخطيط مبكر، شفاف، ومشترك، يضم الأهالي، لجان الأحياء، والجهات المختصة.
وأي مشروع ثقافي، مهما كانت قيمه جميلة، يفقد معناه حين يتحوّل إلى عبء دائم على من يفترض أن يكونوا جزءًا منه — لا ضحاياه.




