من مكارم الأخلاق: المبادرة إلى العمل الصالح
بقلم الشيخ رشاد أبو الهيجاء
إنّ المبادرة إلى العمل الصالح من أسمى مكارم الأخلاق، وهي مفتاح السعادة البشرية، يتفق على فضلها العقلاء والصلحاء، ولا ينكرها إلا مَن ساءت سريرته ومرض قلبه. فالإقدام على فعل الخير ينفع المبادر وينفع مَن تُبذل لهم هذه المبادرة، سواء كانوا من البشر أو من الحيوان أو النبات.
فالذي يُطَيِّب شجرةً بتقليمها يحسن إليها فتُعطيه جمالاً وثمراً، ومن يُحسن إلى الماشية سقياً وإطعاماً ينتفع بحليبها ولحمها وصوفها. وكذلك من يُحسن للناس ويتعاون معهم على الخير كما قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾، يضمن لنفسه بيئة طيبة تسودها الرحمة والمودة، تعود بالسلامة عليه وعلى أهله وعياله.
وفوق ذلك كله، فإن أعماله الصالحة تُحفظ له في سجل أعماله، تشهد له به ملائكة الرحمن، كما قال تعالى:
﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ﴾.
ويوم القيامة يفرح بهذا السجل ويقول:
﴿هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ﴾.
وبالمبادرة يحصّن المرء نفسه من فتن الحياة، فقد قال رسول الله ﷺ:
«بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِم…».
كما يحفظ نفسه من الأسقام، فقد قال ﷺ:
«دَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةِ».
ولما أراد النبي ﷺ أن يوسع مفهوم الصدقة قال:
«يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَة…»
مبيناً أن كل كلمة طيبة وعمل نافع خطوة نحو الصلاة أو رفع أذى عن الطريق هي صدقة.
ولئلا تُظن المبادرة حكراً على القادرين، قال ﷺ:
«عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَة»، ثم بيّن أن العمل باليد، وإعانة المحتاج، والأمر بالمعروف، وحتى الإمساك عن الشر، كلها صدقات.
وتبلغ المبادرة ذروتها حين لا يستهين الإنسان بأي عمل صالح، حتى لو كان في لحظاته الأخيرة؛ ولذلك قال ﷺ:
«إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ… فَلْيَغْرِسْهَا».
فالمؤمن يُبادر ولو لم ينتفع أحدٌ بثمر ذلك العمل بعد قيام الساعة، لأن قيمة العمل الصالح عند الله لا تُقاس بنتائجه الدنيوية.
وما أعظم أن يكون القلب سليماً نقياً من الأحقاد، عامراً بالرحمة والحب، فهو السبيل إلى الفوز يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
ومن مكارم الأخلاق المبادرة إلى حماية المجتمع والمساهمة في صيانة أمنه واستقراره بالحكمة والموعظة الحسنة. ولنا في سيرة النبي ﷺ وصحابته الكرام أعظم الأمثلة:
سلمان الفارسي ومبادرة الخندق
حين حاصر الأحزاب المدينة، جاء سلمان الفارسي بفكرة لم تكن معروفة عند العرب: حفر الخندق. قبل النبي ﷺ الفكرة، لأن الحكمة ضالّة المؤمن، فأنقذت هذه المبادرة دماءً وأعراضاً وأموالاً.
نعيم بن مسعود وتفكيك الأحزاب
جاء نعيم مسلماً في الخفاء، فقال له النبي ﷺ:
«إِنَّمَا أَنْتَ فِينَا رَجُلٌ وَاحِدٌ… فَخَذِّلْ عَنَّا مَا اسْتَطَعْتَ».
فنجح في إيقاع الاضطراب بين الأحزاب حتى انصرفوا، بعد أن وصف الله حال المؤمنين في تلك اللحظات العصيبة بقوله:
﴿وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ…﴾.
مبادرة النبي ﷺ في حلف الفضول
شهد النبي ﷺ قبل الإسلام حلف الفضول لنصرة المظلوم، وقال بعدها:
«لَوْ دُعِيتُ بِهِ فِي الإِسْلَامِ لَأَجَبْت»،
تأكيداً منه أن حماية الحقوق واجب لا يحده زمان.
قصة الحجر الأسود
حين كادت القبائل تقتتل على شرف وضع الحجر الأسود، بادر ﷺ بحل حكيم؛ فوضع الحجر على ثوب وأمر رؤساء القبائل برفعه جميعاً، ثم وضعه هو بيده الشريفة، فحقن الدماء وأطفأ الفتنة.
ومن هنا، فإنّ المبادرة للإصلاح بين الناس ضرورة اجتماعية، إذ قال رسول الله ﷺ:
«أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ؟ قالوا: بلى. قال: إصْلاحُ ذَاتِ البَيْن…».
وختم ﷺ بقوله الجامع:
«وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيه».
⸻
إنَّ مجتمعاً يبادر أهله إلى الخير، ويصلحون ذات بينهم، ويحمون بعضهم بعضاً، هو مجتمع يعيش في ظل الرحمة الإلهية، وينعم بالأمن والمحبة والسكينة.




