نفوسهم رحمةً تسري إلى من حولهم.
للخيرِ أهلٌ
لا تزالُ وجوهُهم تدعو إليهِ، وطوبى لمن جرتِ
الأمورُ الصالحاتُ على يديه ما لم يضقْ خُلقُ الفتى فالأرضُ واسعةٌ عليهِ.
وقدوتهم في ذلك رسول الله ﷺ الذي بنى مجتمعًا متآلفًا، تتعمّق فيه مشاعر الرحمة والأخوة الإنسانية، ويُصان فيه كرامة الإنسان. فالمواساة — كما تُعرّف — هي المداواة والإصلاح والعلاج، وهي من سمات المجتمع الراقي الذي يرفع شعار التعاضد والتكافل.
ومن أروع أمثلة المواساة ما فعله النبي ﷺ مع الصحابي جابر بن عبد الله بعد استشهاد والده في معركة بدر، إذ وجده كئيبًا فقال له:
“يا جابر، ما لي أراك منكسرًا؟”
قال: “يا رسول الله، استُشهد أبي وترك عيالًا ودَينًا.”
فقال له النبي ﷺ:
“ألا أبشّرك بما لقي الله به أباك؟ إنّ الله أحيا أباك وكلمه كفاحًا، وقال له: تمنَّ أعطك. فقال: أُحيي فأُقتل ثانية. فقال الله: إني قضيت أنهم لا يرجعون.”
فنزل قوله تعالى:
{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}.
ولم تقتصر مواساة النبي ﷺ على الكلام، بل تجسّدت في العمل، إذ ساعد جابرًا على قضاء دين والده بنفسه، حتى روى جابر:
“فكال النبيّ التمر بيده لكلّ رجلٍ حتى استوفى دين أبي، وبقي التمر كما هو، كأنّه لم يُمسّ.”
وهذا يعبّر عن صدق الأخوّة والمواساة العملية التي أرساها الرسول الكريم، كما قال ﷺ:
“مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى.”
وقال أيضًا:
“المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن، يكفّ عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه.”
ولذلك، فالمواساة ليست شعارات، بل شعورٌ حيّ يترجم إلى فعل، وإلا انتُزعت من قلوبنا صفة الإيمان التي تقتضي الرحمة والتكافل.
وقد حثّنا القرآن الكريم على البذل والعطاء، فقال تعالى:
{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}
وقال أيضًا:
{وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى}.
فمن يواسي الخلق يرحمه الخالق، ويرضيه بنعيمٍ لا مثيل له.
وفي الحديث القدسي:
“يا ابن آدم، إنك إن تبذل الفضل خيرٌ لك، وإن تمسكه شرٌّ لك، ولا تُلام على كفاف، وابدأ بمن تعول، واليد العليا خيرٌ من اليد السفلى.”
وقد مدح النبي ﷺ الأشعريين فقال:
“إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قلّ طعام عيالهم بالمدينة، جمعوا ما عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم بالسوية، فهم مني وأنا منهم.”
إنّ المواساة دليلُ إحساسٍ حيّ، وشاهدٌ على صدق الإيمان، فالمؤمن يبذل ويعطي، ويجد في ذلك لذةً روحية.
قال ﷺ:
“لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه — أو لجاره — ما يحبّ لنفسه.”
وليست المواساة حكرًا على المال فقط، بل تكون أيضًا بعطفٍ ولطفٍ ورحمةٍ، وبإحساسٍ مرهفٍ يلتقط حاجات الآخرين دون أن يحرجهم، كما قال النبي ﷺ:
“لا تديموا النظر إلى المجذومين” — رحمةً بهم.
والمواساة الحقيقية لا تنتظر طلب المحتاج، بل تبادر من القلب الطيب، كما في حديث سعد بن أبي وقاص:
“من كان معه فضل ظهرٍ فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زادٍ فليعد به على من لا زاد له…”
قال الراوي: “حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل.”





