الرجولة مواقف
بقلم: الشيخ رشاد أبو الهيجاء
يكثر الحديث عن الرجولة، ويُخطئ البعض حين يحصرها في الذكورة، رغم أن بعض الذكور قد يتميّزون بسلبيات اجتماعية كثيرة، في حين نجد من النساء من تحمل صفات الرجولة أكثر من بعض الرجال. فالرجولة ليست صفة جسدية، بل هي مواقف مشرفة يضع من خلالها المرء بصمة خيرٍ وبرٍّ في حياته وحياة أهله ومجتمعه.
ونجد من الرجال من يتميّز على أقرانه بصفات كثيرة، من أهمها الهمة العالية في أداء الواجب، ونصرة الضعيف، والسعي في طرق الخير، وطلب معالي الأمور لا سفاسفها. فلا يُعقل أن يدّعي المرء الرجولة وهو منغمس في القيل والقال، ولا يمكن أن يكون رجلًا من يتعدّى على حقوق الضعفاء، وخاصة الأخوات في الميراث، ولا من كان عاقًا لوالديه، أو متقاعسًا عن نصرة المظلوم وإغاثة الملهوف.
الرجولة أن تشمّر عن ساعدك وتقوم بواجبك كزوجٍ وأبٍ، تنظر إلى أعلى المراتب الدنيوية والأخروية لك ولأهلك، وتشُقّ طريقك ولو كان مليئًا بالأشواك. فلا يمكن أن يتصف المرء بالرجولة وهو نائم في فراشه يطلب من زوجته وأولاده النفقة وهو سليم معافى، فذلك كله يتناقض مع صفات الرجال.
الرجولة أن تسطر في حياتك تاريخًا لا يستطيع غيرك أن يفعله.
ومثال ذلك ما رواه ابن حجر في الإصابة: أن خالد بن الوليد لما حاصر الحيرة طلب العون من الخليفة أبي بكر، فأمدّه برجل واحد هو القعقاع بن عمرو، وقال أبو بكر: “لا يُهزم جيش فيه القعقاع، فصوت القعقاع في الجيش خير من ألف رجل”.
فالرجولة مواقف وشجاعة وصدق بالحق، وليست مظاهر خداعة.
كم من شخصٍ يورّط نفسه بالديون من أجل سيارة أو مظهر من مظاهر الحياة، لكنه يتردد إن دُعي لإطعام جائع أو إغاثة ملهوف أو اجتناب الفساد! نحن بحاجة ماسّة إلى من يتصفون بصفات الرجولة ليكونوا سندًا لنا وعونًا للآخرين، اتباعًا لهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم وجميع المرسلين.
وقد لخّصت خديجة رضي الله عنها صفات الرجولة في النبي ﷺ حين قالت له:
“كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدًا، فوالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق.”
وشهد له حتى أعداؤه بخصاله، فقال النضر بن الحارث لقريش:
“قد كان محمد فيكم غلامًا حدثًا، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثًا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم قلتم: ساحر! وما هو بساحر.”
والشاهد أن الرجولة تعني الصدق والأمانة ونصرة الضعفاء.
ولو تتبعنا آيات الله لوجدنا أن القرآن ذكر في أكثر من موضع رجالًا حملوا صفات الرجولة وتركوا أثرًا خالدًا إلى يوم القيامة.
فنبي الله لوط عليه السلام كان حكيمًا مقدامًا يدفع الباطل بكل ما أوتي من قوة، قال تعالى في سورة هود:
(وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزوني في ضيفي أليس منكم رجل رشيد)
فالرجولة عفة وطهارة لا خِسّة ودناءة، كما قال تعالى:
(لمسجد أُسس على التقوى من أول يومٍ أحق أن تقوم فيه، فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين)
وقال أيضًا:
(رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، يخافون يومًا تتقلب فيه القلوب والأبصار)
والرجولة تعني الثبات على المواقف في نصرة الحق، كما قال تعالى:
(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا)
ومن المظاهر المحزنة في زماننا أن البعض يعتبر التآمر على الآخرين وإذلالهم رجولة، وآخرون يرون أن الخروج عن القيم والمروءة دليل قوة، وهناك من ضعاف النفوس من يصدّق ذلك، وكأن قول الرسول الكريم يتحقق في زمنٍ تتقلب فيه الموازين:
(سيأتي على الناس سنوات خداعات، يُصدَّق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويُخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة).
قيل: وما الرويبضة يا رسول الله؟
قال: “الرجل التافه يتكلم في أمر العامة.”
فمن أراد أن يتصف بصفة الرجولة فعليه أن يكون حسن الخُلق، سبّاقًا إلى كل خير، يروّض نفسه لتتطلع إلى معالي الأمور.
وليست الرجولة كأسًا ولا غانية، ولا تكون لأناس يجمعهم الطمع ويفرّقهم الخوف.
وقد قال الرسول ﷺ: “طلب العلم فريضة على كل مسلم.”
فبالعلم تكون المعرفة، وبالقوة الروحية والبدنية تكتمل الرجولة. ليست الرجولة لأصحاب الأرصدة في البنوك، بل لأصحاب العقول الراجحة والعلوم والمعرفة، ولمن يترفّعون عن المغريات ويتطلعون إلى معالي الأمور، فيخطّون لأنفسهم مسالك الصالحين والأتقياء.
وقديماً تمنى عمر بن الخطاب أن يكون له رجال يحملون صفات الرجولة مثل: أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة، ليعينوه على إعلاء كلمة الله.



