أفلح المؤمنون
بقلم الشيخ رشاد أبو الهيجاء
قال تعالى في مطلع سورة “المؤمنون”:
{قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون * والذين هم عن اللغو معرضون * والذين هم للزكاة فاعلون * والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون * والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون * والذين هم على صلواتهم يحافظون * أولئك هم الوارثون * الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون}.
وقفت متأملاً عند هذه الآيات العظيمة من فواتح سورة “المؤمنون”، وتملكتني تساؤلات كثيرة، أهمها: لماذا يعاني بعض أبناء مجتمعاتنا العربية من سلوكيات تتنافى مع هذه القيم؟ كيف أصبح القتل والظلم سمةً تَطبع واقعنا، رغم أن كثيراً من الناس أبرياء من هذه الممارسات؟
ألم يرَ هؤلاء ما آلت إليه أحوال الأمة من ويلات ومصائب؟ ألم تحرك فيهم المحن والمآسي روح التوبة والاستغفار؟ أين هم من مشاهد الظلم والقهر التي تتفطر لها القلوب؟
أليس الأجدر بنا أن نتمثل بأخلاق الإسلام السمحة، وأن نجعل من القرآن منهج حياة؟ لنكون من جلساء النبي صلى الله عليه وسلم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“إن من أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إليّ وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون”.
قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟
قال: “المتكبرون”.
وفي أحاديث أخرى بيّن عليه الصلاة والسلام فضل الخلق الحسن، فقال:
“ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق، وإن الله يبغض الفاحش البذيء”،
وقال: “إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم”.
فالذين أفلحوا هم أهل الأخلاق، الذين عظّموا الله وعظّموا شعائره، وخشعت قلوبهم بين يديه، كما قال تعالى:
{الذين هم في صلاتهم خاشعون}.
الخشوع في الصلاة أثره يتعدى الجوارح إلى السلوك العام. يقول الإمام الحسن البصري:
“كان خشوعهم في قلوبهم، فغضّوا بذلك أبصارهم، وخفضوا الجناح”.
أي تواضعوا لعباد الله لما خشعت قلوبهم، فاستجابت الجوارح لذلك التواضع.
وحين تواضعوا طاعة لله، عرفوا حق القريب والبعيد، ولم يرضوا أن ينعموا برغد الدنيا وحدهم، بل بادروا إلى أداء الزكاة حباً لله وطلباً لرضاه، وسعياً في إسعاد الآخرين، كما في قوله تعالى:
{والذين هم للزكاة فاعلون}.
هؤلاء المؤمنون زكّوا أنفسهم من الرذائل، وطهّروا أخلاقهم، كما أمر الله نبيه:
{خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها}.
فالطهارة والعفة كانت عنوان حياتهم، فحفظوا فروجهم عن الفواحش، كما قال:
{والذين هم لفروجهم حافظون}.
ابتعدوا عن الزنا وكل انحراف، واختاروا طريق الطهارة والخير.
ولم تكن تزكية النفس لديهم مقتصرة على الجسد، بل شملت اللسان أيضاً، فكانوا معرضين عن اللغو، كما في قوله:
{والذين هم عن اللغو معرضون}.
فلا يقولون إلا ما فيه خير، ولا يسمعون ما لا ينفع، امتثالاً لقوله تعالى:
{والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراماً}.
وبما أنهم أصبحوا من أهل الكرامة، سارعوا لأداء الحقوق، وأدركوا أن لكل مقام مقالاً، كما قال الله:
{والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون}.
فهم أوفياء بعهد الإيمان، حريصون على أداء الأمانات، قولاً وفعلاً، وعملاً ومالاً، إدراكاً منهم لقوله صلى الله عليه وسلم:
“كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول”.
وقد قاموا بتربية أبنائهم تربية سليمة، فأنشأوا أجيالاً تعرف بر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الجيران، والسعي في الخير. علموهم أن الأمانة خلق المؤمن، وأن الخيانة والغدر صفات المنافقين، كما قال صلى الله عليه وسلم:
“آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان”،
وفي رواية:
“وإذا خاصم فجر”.
وما نرجوه من كل مؤمن أن يكون محبوباً بين الناس، يألف ويؤلف، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
“المؤمن يألف ويؤلف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف، وخير الناس أنفعهم للناس”.
وقال أيضاً:
“أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله تعالى سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخي في حاجة أحب إليّ من أن أعتكف في هذا المسجد شهراً…”.
فأين نحن من هؤلاء المؤمنين المفلحين؟ وأين مجتمعاتنا من هذه القيم التي إن تمسكنا بها استقمنا، وفزنا في الدارين؟
نسأل الله أن يجعلنا من الذين يرثون الفردوس، خالدين فيها، وأن يعيننا على تزكية أنفسنا، وتحقيق صفات المؤمنين الذين أفلحوا.
هل تحب أن أجهز هذا المقال بصيغة وورد أو PDF أيضاً؟




