للخدمة باللغة العربيّة، اضغط 2

مراسل حيفا نت | 14/03/2019

للخدمة باللغة العربيّة، اضغط 2

رقيّة عدوي: مُدّرِسة في مدرسة المتنبّي

احتجتُ لوصفة طبّيّة مُحوسَبة، هاتفتُ المركز الطبّيّ بغيّة الحصول عليها، لمّا طلبتها بتهذيب قائلة:” لو سمحتِ أنا بحاجة لوصفة طبّيّة مُحوْسَبة”، لم تفهم السكرتيرة طلبي، تساءَلت عمّا أقصد وماذا أريدُ بالضبط، فقلت لها أنا بحاجة لـ מרשם דיגיטלי، فعرفت فورًا طلبي ولبّت حاجتي على جناح السرعة. في طريقي للصيدليّة كنتُ أتساءل عن الحال الذي وصلنا إليه، أقصد حال لغتنا العربيّة في ظلّ هيمنة وسيطرة اللغة العبريّة عليها علاوة على دخول الكثير من المصطلحات الهجينة والدخيلة، حتّى صرنا نكتب ونتحدّث بالعربليزيّ أو العبريليزيّ، عدا عن تركيبها مع أشباه الجمل شبه العربيّة في أحاديثنا اليوميّة، عبْر مواقع التواصل الاجتماعيّ التي صارت واقعًا وحياتنا من خلف الشاشات هي الافتراضيّة، والأدهى والأمرّ، مدارسنا، وربّما هنالك حيث نقبر لغتنا ونشيّعها إلى مثواها الأخير.

لست بصدد الحديث عن اللغة العربيّة، ولا تناول مكانتها أو تاريخها أو ربّما عراقتها أو أصالتها، وبالتأكيد لا أرنو لاقتباس الكثير من الشعارات الجوفاء والقصائد الطويلة وربّما الأمثال الرومانسيّة عن اللغة العربيّة من موروثنا العربيّ العريض الذي يتناول اللغة العربيّة ويتحدّث عنها بإسهاب شديد. بل أنا بصدد تشريح هذا الواقع دون حقنه بالبوتكس أو الاختباء خلف أصابعنا. لا شكّ بأنّ اللغة العربيّة لا تُلبّي حاجاتنا المختلفة اليوم، في البلاد خاصّة وفي العالم عامّة، أي أنّها ليست بلغة إنتاج علميّ-معرفيّ أو بحث. ولا أعتقد بأنّ مهندس الحاسوب الذي يعمل في شركة من شركات الهايتيك يفكّر الآن بإعراب معلّقة عمرو بن كلثوم وبالتأكيد لن يُفكّر بالتناصّ الموجود في قصائد محمود درويش، وربّما لن يتذكّر طلّاب الثاني عشر مسرحيّة مجنون ليلى لأمير الشعراء، أحمد شوقي بعد الفراغ من امتحان البجروت باللغة العربيّة. في المقابل علينا أن نَعِيَ بأنّ اللغة العربيّة هي لغتنا الأمّ، اتقان اللغة الأمّ شرط أساسيّ لإتقان لغات أخرى، والإبداع باللغة الأمّ جسر عبور يؤدّي في نهاية المطاف للإبداع والتميّز بلغات أخرى.

علاوة على ذلك إنّ عمليّة إلغاء الشعوب وسحقِها تبدأ بشلّ الذاكرة، تشويه الثقافة وقتل اللغة. بعد هذه المرحلة تبدأ المرحلة الثانية، وهي تذويت لغة جديدة بديلة تحلّ مكان اللغة الأمّ والتي يقتنع الشعب بالتالي بعدم جدواها أو فائدتها كلغة أمّ أولى، وهنا يقوم المُستعمِر ببناء ثقافة بديلة مهترئة وتصنيع ذاكرة أخرى مُشوّهة، هذه الفكرة تعلمها وتَعيها تمامًا الدول الراقية والمتطوّرة فتعمل جاهدةً على حفظ لغتها ومكانتها، تجعل من اللغةِ لغة علم، معرفة، إنتاج وإبداع بل وتعمل على حمايتها إلى حدّ تقديسها وتطويرها. اللغة ليست مجرّد أصوات ونغمات تتكوّن من أبجديّة فتُشكّل بالتالي الكلمات والجمل الكاملة، بل اللغة هي حالة وجدانيّة خاصّة وهي أداة التواصل الأولى مع المحيط والخارج، ومن قبلها النفس والذات، وتكوّن بالتالي مُجمل مراحل حياتنا وتُشكّل ذاكرتنا، تُعبّر عن إحساسنا ومشاعرنا كما وترتبط بفترات تاريخيّة معيّنة تُبلور تجاربنا وتضعها ضمن قوالب مغايرة، ليتسنّى لنا بالتالي تشكيل هوّيّتنا والتواصل مع ذاتنا بشكل سليم وصحّيّ، لا ننسى بأنّ عمليّة قتل اللغة أساسًا تُزعزع كلّ الثوابت التي ترتكز عليها الشخصيّة الإنسانيّة. وهنا لا بدّ من استحضار عالم الاجتماع ابن خلدون: ” إنّ قوّة اللغة في أمّة ما، تعني استمراريّة هذه الأمة بأخذ دورها بين بقية الأمم، لأنّ غلبة اللغة بغلبة أهلها ومنزلتها بين اللغات صورة لمنزلة دولتها بين الأمم “، هنا تكمن كلّ الحكاية. بالإضافة لأنّ شعور شعب مُعيّن بالدونيّة أو الانحطاط أمام الثقافات والحضارات الأخرى، نظرًا لعجزه – أيّ الشعب – عن التماهي مع ثقافته وحضارته يُساهم في تأزّم هذا الحال وتفاقمه.

علينا أوّلًا أن نعي مكانة اللغة وحيّزها في حياتنا، تشكيل هوّيّتنا ودورها المركزيّ والأساسيّ في بلورة ذاتنا. بناءً عليه يجب أن يأخذ كلّ واحد منّا دوره الحقيقيّ للرقيّ باللغة العربيّة والعمل على إحيائها من جديد، بعيدًا عن الشعارات الرنّانة والاحتفال بها ضمن يوم عالميّ مُخصّص للتعريف بها، بل علينا أن نُفكّر خارج الصندوق والعلب قليلًا وأن نتعامل بحذر ورويّة مع واقعنا المعقّد والمركّب. ما أحوجنا اليوم وأكثر من أيّ وقتٍ مضى، لإحياء لغتنا العربيّة محادثة، تعبيرًا وكتابةً وبشكلها المعياريّ والعاميّ-اليوميّ ولو بأبسط الطرق والإمكانيّات وذلك أضعف الانتماء. يمكننا مثلًا أن نضع في متناول طلّابنا في مدارسنا لوحات ولافتات باللغة العربيّة، تشجيع القراءة والمطالعة وتحبّيبها إلى نفوس طلّابنا وأبناء مجتمعنا، التحدّث بلغة عربيّة معياريّة سليمة على الأقل في حصص اللغة العربيّة وكذلك عبر مواقع التواصل الاجتماعيّ، وإن بدأ ذلك من جانب المعلّم ليكون قدوة حسنة لطلّابه وخير مثال يعمل على تذويت اللغة العربيّة بأساليب شبابيّة-عصريّة، ولا تُكتسب اللغات إلّا بالممارسة، فما أحوجنا لاكتساب العربيّة بالممارسة بعد أن كُنا قد حصلنا عليه بالفطرة. بالإضافة لذلك، يجب ألّا نُهمل أو ننسى دور العائلة، وربّما الأمّ تحديدًا، وهي الإنسان الأوّل الذي يتشكّل أمام الإنسان، قبل ولادته أساسًا، ولا بدّ لنا من استحضار فكرة أنّ تربية الإنسان تبدأ أساسًا من لحظة كونه جنينًا قد نُفِخَت به الروح داخل رحم الأمّ، فلتنتقي الأمّ كلماتها، أحاديثها، قصصها، تجاربها وكلّ ما تسمع فكلّ ذلك سيُشكّل لاحقًا تلك النطفة التي ستتكوّن في رحمها.

إنّ جعل اللغة العربيّة لغة معرفة وإنتاج علميّ-معرفيّ يحتاج لسيرورة طويلة الأمد، ولا ننسى في المقابل، أنّ تدريس الطبّ في الجامعات السوريّة كان باللغة العربيّة وخير مثال على ذلك د. زهير حلّاج، عميد كلّيّة الطبّ في جامعة تشرين في اللاذقيّة، حيث وثّق كلّ من تسنّى له حضور محاضراته الإشادة بطلاقة المحاضِر وحيويّة الطلّاب وتمكّنهم من التعبير والتفاعل بلغة عربيّة سليمة، بل أنّ تدريس الطبّ باللغة العربيّة أبدًا لم يكن عائقًا أمام طلّاب الكلّيّة لاجتياز امتحان المجلس التعليميّ للأطبّاء الأجانب والذي تعقده الولايات المتحدّة الأمريكيّة، ليتضح بأنّ مستوى الطلّاب هؤلاء لا يقل أبدًا عن مستوى وتحصيل طلّاب طبّ آخرين يدرسون الطبّ بلغات أُخرى كالإنجليزيّة مثلًا. لذلك، لزامًا علينا أن نتماهى مع لغتنا وأن نتبحّر قليلًا وتدريجيًّا بعلومها، نتمتّع بجمالها ونتذوّق بعضًا من رونقها.

لغتُنا هوّيّتنا، سرّ حضارتنا، مفتاح ثقافتنا وأداتنا الأولى للتواصل مع ذاتنا وأنفسنا… للخدمة باللغة العربيّة اضغط على قلبك واحمِ وجودك واضمن بقاءك على هذه الأرض.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *