علّموا أولادكم وطلّابكم قصّة حمدة

مراسل حيفا نت | 22/02/2019

علّموا أولادكم وطلّابكم قصّة حمدة

رقيّة عدوي: مُدّرِسة في مدرسة المتنبّي

بدأ طلّابي بالتنقيب والبحث عن أسماء شعراء سوريّين لمّا طلبتُ منهم ذكر أسماء شعراء عرب في بداية الحصّة، وجّهوا ذاكرتهم للبحث عن شعراء سوريّين حصرًا، كان ذلك بعد أن قال لهم أحدهم بأنّني أحبُّ سوريّة كثيرًا ومتأثّرة بالأدب السوريّ وأنّني أستشهد كثيرًا بأقوال لأدباء وشعراء من سوريّة بالإضافة لحديثي دومًا عنها بشغف وحبّ. ولكنّ اسم الشاعر الذي كنتُ أرغب بسماع اسمه لم يَرِد على لسان أيّ طالب من طلّاب الصفّ، وكان الشاعر فعلًا سوريّ الجنسيّة، وهو الشاعر الراحل عمر الفرّا.

عمر الفرّا (1949-2015)، هو شاعر سوريّ معاصر من مواليد تدمر تلك المدينة الأثريّة العريقة التي كانت فجرًا للحضارات عبر العصور، درس في تدمر ثمّ انتقل إلى حمص ليُدرّس فيها. نشأ وشبّ الفرّا في البادية وعلى صوت الربابة التي كان يعزف والده عليها، فتأثّر جدًّا بالجوّ الذي نشأ وعاش فيه، أوليس الإنسان بابنٍ لبيئته؟ عُرف الفرّا بقصائد قوّيّة باللهجة العاميّة-البدويّة التي طغت على شعره وشكّلت علامة فارقة في مسيرته الأدبيّة، بالإضافة لقصائد بالفصحى المعياريّة والتي لم يكن أقلّ إبداعًا فيها مقارنة بتلك المنظومة بالعاميّة-البدويّة. قال الرئيس السوريّ الراحل، حافظ الأسد، عن شعره ذات نهار بأنّه يُعادل فرقة دبّابات. للفرّا الشاعر وجهان؛ الأوّل هو الوجه الاجتماعيّ الذي به يناصر حقوق المرأة وعلى طريقته الخاصّة في وجه عادات وتقاليد القبيلة، إلى درجة أن قيل عن هذا التوجّه بأنّه قادر على صياغة ما يُعرف بصياغة الوعي النسويّ. أمّا الوجه الآخر فهو وجه الشاعر التقليديّ الذي يعمد إلى المدح والثناء، الذي وبالمناسبة له رواجه وسوقه الشعريّ الخاصّ وفقًا للبروباغندا الحربيّة والانتصاريّة، لا سيّما بعد حرب تمّوز 2006، وسوقه الشعريّة التي ازدهرت فيما بعد الحرب ممّا مكّن الفرّا من محاكاة مجد العلاقات والمهرجانات الشعريّة والمقابلات التلفزيونيّة المختلفة. وفي كلّ مهرجانات الفرّا الشعريّة، ثمّة قصيدة يطلبها الجمهور دومًا، بالعاميّة البدويّة وحضور الفرّا وتألّقه، هي قصيدة رسخت في الذاكرة الجمعيّة للجمهور. هي قصيدة “قصّة حمدة”، والوجه الأوّل لعمر الفرّا كشاعر هو الذي يعنيني الآن.

كتبتُ اسم الفرّا على اللوح وأرفقتُ الاسم بسنة الولادة والرحيل، في أعقاب ذبحة صدريّة أصابته في دمشق عام 2015. وأسهبتُ في الحديث عن سيرته الذاتيّة ومسقط رأسه تدمر التي ترتبط بأسطورة الملكة زنوبيا، ليكون ذلك مدخلًا لعرض القيمة الجماليّة-الفنيّة لقصيدة مكتوبة بالعاميّة البدويّة تُحاكي وجدان الشاعر وتتماهى مع قضيّة اجتماعيّة وبامتياز، قرأتُ وبالبدويّة التي حاولت اتقانها أمام طلّابي، قصيدة “قصّة حمدة”، كما وسمعناها بصوت الشاعر نفسه من احدى مهرجاناته الشعريّة، ومن ثمّ تسنّى لنا أن نناقش أبعاد الظاهرة التي تحاول القصيدة طرحها. حمدة فتاة تحاول عائلتها تزويجها من ابن عمّها وفقًا للتقاليد والعادات البدويّة القديمة التي أكل الدهر عليها وشرب، سيرًا خلف مقولة “ابن العمّ بنزّل بنت العمّ عن الفرس”، في محاولات بائسة لحفظ النسل والعائلة ضمن منظومة زواج الأقارب. تُصرّح حمدة صراحةً وترفض هذا الزواج رفضًا قاطعًا بقولها:” ما أريدك… ما أريدك حتّى لو تذبحني بايدك ما أريدك”. بينما الفرّا يُقدّم لقصيدته قائلًا:” قصّة فتاة تركت بصماتها على رصيف الزمن… ليُقال من بعدها: من هنا مرّت حمدة”… تحاول حمدة التحدّي وتكتب انتصارها على الريح بموتها انتحارًا، بذلك تُسجّل موقفًا ساخرًا من كلّ التقاليد البالية، الرجعيّة والمُتخلّفة. تحتضن الأرضُ حمدة، تُغطّيها وتُهنّيها بينما طائر الورْور ينوح على قبرها بعد أن مرّغ خدّه فوق التراب. هذا وتُغيّب القصيدة الصوت والنفَس والحضور الذكوري، لتستحضر عوضًا عن ذلك أشياء حمدة كمِروَد الكحل، ثوب المخمل، المرآة، الشعر المتناثر فوق المخدّة، المُشْط والبُكلة.

لا يمكن تجاهل ردّة فعل طلّابي إزاء تدريس وتناول مثل هذه القصيدة لا سيّما في هذه الظروف العصيبة التي نمرّ بها فيما يتعلّق بمكانة المرأة وحضورها بالمجتمع، التميّيز الواقع بحقّها في مجالات مختلفة ومتفاوتة بالاستناد على مجموعة فتاوى ونصوص أكل الدهر عليها وشرب، تصلح بأن نتعامل معها كنصوص تاريخيّة فقط نُحلّلها وفقًا لسياقها وبُعدها الثقافيّ-الاجتماعيّ فقط. هذا بالإضافة للممارسات العنيفة الواقعة على المرأة ومصادرة حقّها في الحياة والحرّيّة والقرار. تحليل القصيدة أخذ أبعادًا أُخر، إذ تماهى الطلّاب مع القصيدة وناقشوها بجدّيّة، عدا عن إحدى الطالبات التي التقتني خلال الاستراحة في باحة المدرسة، عرضت تفسيرًا آخر مغايرًا وأبعادًا أخرى لم يُسعفها وقت الحصّة لتعرض كلّ ما تريد قوله، ممّا دفعني وبشكل جدّيّ لفتح باب النقاش في الحصّة القادمة كذلك.

حان الوقت بأن ننتفض بشكل جدّيّ وحقيقيّ وأن نكشف طلّابنا على قضايا مجتمعنا بشكل حقيقيّ أكثر دون رتوش أو ماكياج أو حقن بوتوكس، وذلك من خلال توظيف قصائد وقصص من موروثنا الأدبيّ، الفنّيّ، التربويّ، الحضاريّ والتاريخيّ في محاولة جادّة لنقد هذا الموروث من جهة ومناقشته من جهة أخرى وربّما التماهي معه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *