لماذا لم يَعُد قتل النساء يهزُّنا؟

مراسل حيفا نت | 15/02/2019

لماذا لم يَعُد قتل النساء يهزُّنا؟

رقيّة عدوي: مُدّرِسة في مدرسة المتنبّي

كيفين كارتر؛ مصوّر صحفيّ من جنوب أفريقيا من أصول بريطانيّة، وُلِدَ لعائلة برجوازيّة-ليبراليّة تسكن حيًّا سكنيًّا للبيض من عائلات الطبقة الوسطى في جوهانسبرغ. ذات نهار من عام 1994 تلقّى اتّصالًا من محرّرة الصور الأجنبيّة من نيويورك تايمز وذلك لتزفّ له بشرى نيْله أرفع جائزة في التصوير الصحفيّ وهي جائزة بوليتزر (Pulitzer Prize) التي تُقدّمها سنويًّا جامعة كولومبيا بنيويورك في الولايات المتحدّة الأمريكيّة في مجالات الخدمة العامّة، الصحافة، الآداب والموسيقى. استلم الشابّ الثلاثينيّ جائزته عن صورةٍ التقطها، التقفتها نيويورك تايمز عام 1993 فهزّت العالم، بعد استلام الجائزة ببضعة أشهر قضى هذا الشاب اليافع منتحرًا. ترك خلفه رسالةً جاء فيها:” تُطاردني ذكريات حيّة من عمليات القتل والجثث والغضب والألم … لأطفال يتضوّرون جوعًا أو جرحى…”.

الصورة التي التقطها كيفين كاتر عُرفت باسم “الطفلة والنسر” أو “طفلة مجاعة السودان”، هي تلك التي التقطها في جنوب السودان تحديدًا في قرية أيود التي زارها المصوّر الشاب مع صديقه لتسليط الضوء والكاميرا على مخلّفات الحرب الأهليّة الدائرة على أرض السودان. سمع المصوّر الشابّ صوت أنين، فإذ به يصدر عن طفلة صغيرة وهزيلة قد نال الجوع منها وتمكّن من جسدها الغضّ حتّى انتهكهُ، كانت الطفلة تزحف باتّجاه مركز توزيع الطعام التابع للأمم المتحدّة، التي نظّمت يومها حملة “شريان الحياة” لإنقاذ ضحايا المجاعة، كان المركز يبعد عن الطفلة مسافة كيلو متر على أقلّ تقدير. نسر كبير حطّ بالقُرب من الطفلة منتظرًا فريسته لمّا حاول كاتر التقاط الصورة لها، كارتر الذي تحدّث وأشار لاحقًا إلى أنّه انتظر حوالي ثلث ساعة على أمل أن يحلّق النسر بعيدًا عن الطفلة دون جدوى، التقط الصورة وطرد النسر وأدار ظهره. هزّت تلك الصورة العالَم بأكمله وأثارت موجات غضب واستنكار، تساءل الجميع عن مصير الطفلة فتضاربت الأخبار والأنباء بين تصريحات تُشير إلى انقاذها وموتها لاحقًا بسبب الملاريا وتقارير أخرى أشارت إلى موتها وأخبار صحافيّة أخرى قالت عن الصورة بأنّها الصورة التي تسبّبت بانتحار ملتقطها.

المثير في الأمر هو تأثير هذه الصورة تحديدًا ووقعها على النفوس والمشاعر رغم مرور ربع قرن على التقاطها وانتشارها، بالإضافة لصور أخرى تركت أثرًا عميقًا لتتسابق صفحات الأخبار ومواقع الانترنت على إعادة نشرها وتوثيقها وذلك تحت عناوين تسويقيّة جذّابة، كأكثر الصور تأثيرًا أو الصور التي هزّت العالَم، يمكن أن نمثّل ذلك بصورة الطفل اليهوديّ المُساق إلى المحرقة أيّام الحرب العالميّة الثانية ونظرات الرعب والفزع تتساقط من عينيه والفتاة الفيتنامية التي تركض عاريةً والنيران تشتعل في ظهرها جرّاء إلقاء قنابل النابالم على بيتها وحيّها الذي تقطن فيه من قِبَل القوّات الأمريكيّة، ولغزّة نصيبها من الصور كمحمّد الدُرّة أيّام الانتفاضة الثانية يوم تكوّر فَزِعًا في حضن أبيه. هذه الصور كلّها تصبّ في بوتقة واحدة وهي التأثير القوّيّ جدًّا رغم أنّها تتناول قضايا مختلفة ومتفاوتة إلّا وأنّها في ذات الوقت تشترك في نقطة مهمّة وهي الحياة؛ أي أنّ الشخصيّات التي تظهر في الصور كانت على قيد الحياةِ ساعة التقاط هذه الصور لهم، ممّا يرفع من درجة التعاطف وربّما التماهي معهم وهم تحت تأثير الحصار، الجوع، الحرب وربّما الموت نفسه. في المقابل، صور الجثث لا يمكنها أن تترك أثرًا مقارنةً بالصور آنفة الذكر ومثال على ذلك صورة الطفل السوريّ الغريق إيلان الكرديّ الذي قذفته الأمواج إلى أحد شواطئ تركيا، هذه الصورة أيقظت العالم من سباته لفترة وجيزة فقط، ولفت نظره مؤقّتًا لمعاناة اللاجئين السوريين وغيرهم. ببساطة، كان إيلان قد فارق الحياة وحيال الجثث التي تفقدها لا يمكننا أن نفعل أيّ شيء، الكارثة الكبرى تكون أنّنا اعتدنا على ذلك، ومن منّا ينسى معظم تفاصيل نشرات الأخبار المتعلّقة بالعراق بعد سقوط نظام صدام حسين وإعدامه بالبثّ الحيّ والمباشر، معظم الأخبار كانت تُشير إلى العثور على عشرين جثّة متفحّمة بسبب انفجار سيّارة، أو العثور على جثث مجهولة الهوّيّة أو العثور على مقابر ومدافن جماعيّة، تتفنّن شاشات التلفزة العربيّة بنشر وتوثيق الجثث المجهولة وإحصاء العدد بينما ما من أحدٍ منّا قد رأى ولو صورة واحدة لجثّة قتيل من قتلى تفجيرات 11 أيلول التي طالت أبراج التجارة العالميّة في الولايات المتحدّة الأمريكيّة، هي إذًا الدول الكبرى التي تملك إعلامًا متقدّمًا تعلم علم اليقين أنّ تكرار صور الدمّ والجثث يخلق حالة من التخمة والشبع الذي تألفه العين تمامًا فيصبح واقعًا وروتينًا لا يمكنه أن يُثير أيّ مشاعر إنسانيّة أو عاطفة بشريّة.

على هذا المنوال قِس آفة قتل وذبح النساء قربانًا للتخلّف والرجعيّة، هذه الآفة التي وللأسف الشديد باتت حالة طبيعيّة وعاديّة في مجتمعنا الذكوريّ- الأبويّ، باختصار اعتدنا على ذلك، فلم نستفق بعد من الجريمة التي طالت المغدورة آية مصاروة في استراليا حتّى انتشر وتناقل الناس توثيقًا لجريمة أخرى طالت الشابّة اليافعة سوار قبلاوي في تركيا، وأنا لا أعلم من هي الضحيّة القادمة ولا بحقّ أيّ امرأة أو فتاة ستكون وعلى أيّ أرضٍ ستحدث، بين كتابة هذا المقال ونشره قد تحدث جريمة أخرى ومشابهة أو مختلفة، ستكون عادية، عادية جدًّا، حتّى وإن وُثّقَت وتناقل الناس وقائعها وأحداثها، وتناقلوا صور فتيات ونساء يانعاتٍ كان لهن أن يملأن الأرض علمًا، فنًّا، جمالًا، حبًّا وإبداعًا، قد أصبحن جثثًا لا حياة فيها، بالتالي لا يمكننا فعل أيّ شيء حيال رحيلهنّ، وهذا ما يحدث مؤخّرًا. في المقابل، قد تكون صورة امرأة واحدة مُعَنَّفَة أشدُّ وقعًا وتأثيرًا من نشر صور من فَقَدْن حياتهن أو بثّ وتداول تصوير الجريمة نفسها، وبذلك نكون قد قتلنا المقتولة أصلًا مرّات أُخَر. حيال المرأة المُعَنَّفَة يمكننا أن نحاول انقاذها من براثن العنف والجَوْر الواقع عليها، التعاطف وحدهُ هُنا لا يشفي الغليل، ولا المتاجرة بالصورة والتسجيل بهدف لفت الانتباه أو حصد أكبر عدد ممكن من المشاهدات وتسجيلات الإعجاب أو أيقونات الغضب والحزن عبر فضاءات الفيسبوك. يبدو بأنّ كلّ وسائل التعبير عن الغضب والاستنكار جرّاء مذابح النساء لم تعد تُؤتي أُكلها أو تُجدي نفعًا، ها قد حان الوقت لتجريب وسائل مقاومة أُخرى ومُغايِرة، من خلال توظيف وسائل الإعلام والمنصّات الفكريّة للثورة على العنف ككلّ، ومذابح وجرائم النيْل من النساء، بالصورة الصحيحة والسليمة، بغيّة منح المرأة حقّها الطبيعيّ في العيش بكرامة، سعادة، طمأنينة وأمان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *