في الغفران تبكي القدس فيصلها

مراسل حيفا نت | 23/09/2018

في الغفران تبكي القدس فيصلها
03(5)
جواد بولس
للغفران في القدس حضور مختلف. في تردّده لعنة الترويض وطعم من الإدمان البغيض؛ تصير فيه ابنة السماء أرملة يسكن في ديارها البكم ويتربّع في حرجها الخوف والذلّ، وتغمر قناطر أحواشها بحور من الالتباس.
يقف أصحابها على أرض من زجاج أملس هشّ ولا يجدون في فضائها، فوقهم، غير الغبار وغير وجوه تطلّ منه بقسمات غريبة ليست كقسمات الملائكة ولا العباد. تنتشر في أجوائها روائح البطش وأصوات العجز الخرساء.
أقف أمام نافذتي محاولًا استكشاف ملامح هذا النهار. تحاول السماء استعادة زرقتها، ولكنّ بعض الغيوم البيضاء البعيدة تمنعها من ذلك.
أحدّق من غير هدف وأشعر لوهلة أنّني في مكان غريب. كانت البيوت قبالتي مثل صناديق موصدة، بلا شرفات ولا شبابيك، ولون سطوحها فاحم كرموش العتمة. شوارع الحيّ بلا نبض، تمتدّ أمامي طويلة كلسان تنّين خرافيّ.
سمعت من إحدى الفضائيات مذيعًا يصرّح: “إنّ الأمين العامّ لجامعة الدول العربية يحذّر من انزلاق الأوضاع في الأراضي الفِلَسطينية المحتلّة إلى مزيد من التدهور خلال الفترة المقبلة”. لم أنتبه إلى ما إذا أوضحت الجامعة العربية ماذا ستكون ردود فعلها المنتظرة إزاء هذا الانزلاق المتوقّع، فلقد انشغلت برقصة غيمة شقيّة كان شكلها كحصان يقف على رجليه الخلفيّتين.
حمّل بعدها المذيع نفسه “الولايات المتّحدة المسؤولية عن خلق هذه الحالة من الغضب واليأس لدى الفِلَسطينيّين ..” بدأت أشعر بالغضب وبالحزن؛ وحاولت التقاط صوت هدير محرّكات مراكب بعيدة فلم أسمع غير صفير الريح.
انتقلت إلى شرفتي الجنوبية. لم يخرج الراهب القبطيّ ليتفقّد ساحته، كما كان يفعل كلّ صباح، ولم أسمع ضجيج طلّاب المدرسة، فبدت بناية الدير كأنّها مهجورة.
حاولت أن أشغل نفسي، كما يفعل أهل الضجر، بإحصاء سرب الحمامات الذي يستوطن “سطوح ضيعتنا العليانه” فلم أجد إلّا واحدة فرّت، كسهم مفزوع، عندما شعرَت بوجودي.
عدت إلى كنبتي، صديقتي، وقلت لربّما ما زال النهار يافعًا، والمدينة، كما يبدو، لم تستفق بعد من ليلها الطويل، الذي كان مثقلًا بتناهيد سكّانها اليهود وبصلوات كهّانها، وبرجائهم من ربّهم أن يغفر كلّ ذنوب شعبه المختار، مهما كبرت ومهما عظمت.
ما زالت أمامي صفحات من كتاب يحكي عن تاريخ حياة صاحبي، أمير القدس فيصل الحسيني، والتي حاولت أن اُؤنس ليلتي بعطرها، كعادتي في “مواسم القحط والغفران”.
لم أجد لنفسي في القدس مطرحًا بعد رحيل فارسها. كانت خيبتي موجعة ووقع اليتم قاصمًا، فلم ألقَ مثل ذكراه ظلًّا واقيًا، ومثلها ملجأ يحميني كلّما اشتدّ الحصار وسدّ القمع جميع الطرقات والأماني.
مرّت ساعتان شعرت فيهما كأنّني أقف على أرجوحة تنقلني بين قدسين وحلم. استذكرت سنين الحصاد والجنى التي عشت فيها قريبًا من قلبه ومن عقله؛ غضبت ثمّ هدأت ثمّ حزنت ثمّ فرحت وابتسمت؛ تمامًا كما أوصانا الفيصل وهو في زنزانته حين قال: “الأوضاع التي تحيط بي عابسة والجدران في هذه الزنزانة عابسة، وأنت عندما تقف أمام القضبان تكون عابسًا، حتّى النافذة الوحيدة في غرفتي يأتيني منها شعاع الشمس عابسًا، لا توجد أيّ ابتسامة إلّا ابتسامتي؛ لذا فإنّني لن أفقدها أبدًا”. فهل ستكفي اليوم بسمة كي نبدّد ظلام القدس؟
سألت صاحبي ما إذا نجح في الوصول إلى القدس القديمة عساني أنضمّ إليه في هذا اليوم غير العاديّ. في الأخبار أعلنوا أنّ معظم الشوارع مغلقة بحواجز أقامتها شرطة الاحتلال، لتمنع تحرّك المواطنين العرب في أرجاء المدينة.
يمكنك الوصول إلى القدس عن طريق شعفاط فمِنطقة وادي الجوز فالبلدة القديمة، هكذا أفادني عبدالقادر؛ أي أنّك تستطيع التحرّك إذا كنت تسكن في مناطق محيطة بهذا المسار، فقط.
مع هذا فلقد نصحني بألّا أجرّب، لأنّ معظم الشوارع مليئة بالجنود وبرجال الشرطة، والأسواق شبه خالية من الزائرين، والمستوطنون يمارسون تحدّياتهم واستفزازاتهم ومحاولاتهم للدخول إلى باحات المسجد الأقصى.
“يعني الأوضاع بتقهر وبتوجّع القلب”، أوجز صديقي وصفه للوضع، وأخبرني أنّه في طريق عودته إليّ.
هل تعلم – يا صديقي – ما كان يقول معلّمنا الكبير؟ سألته وكنّا نستعدّ لمغادرة البيت، فقرأت عليه ما جاء عن فيصل: “يمكن للقدس أن تكون إمّا شمس الشرق الأوسط الدافئة وإمّا ثقبها الأسود الذي يبتلع كلّ شيء!”
نظرت إليه، وكان مطأطئًا، فرفع رأسه وقال: هذا الكلام صحيح لو بقي عاشقها يدافع عن حرمتها ويفتديها بروحه.
تركنا البيت وقرّرنا التوجّه إلى رام الله.
سرنا في شوارع خالية إلّا من الوهم والسراب؛ كانت المِنطقة ككائن أصيب بجُلطة قاتلة. في بيوتها يصلّي الرجال ويتمنّون انقضاء الشقاء وتستمطر النساء الغيم والقدر؛ في الجوّ هدوء ساحر وفوقنا صارت الشمس عالية وعلى يمينها خيال للقمر .
“يا أخي، معظم الناس تصرّفوا كما توقّع حكّام إسرائيل منهم”، بادرني أبو شادي، وأضاف بمسحة من حزن: “تمامًا كما أملت عليهم غرائزهم التي دُجّنت خلال عقود من القمع والقهر والحصار”. لم أجبه، فالشرق خبير بتدجين نموره في اليوم السادس!
يرتفع على يميننا سور الفصل المستفزّ. كان باطونه يصرخ، هكذا تخيّلنا، ويردّد كلام فيصل يوم كان يواجه الأمّة العربية ويقول لحكّامها: “نحن هنا نكافح ونقاتل ونواجه. نستطيع أن نعد الأمّة العربية والإسلامية بكفاح ونضال وصمود، سواء أدعمونا أم لم يدعمونا، ولكن إن دعمونا فربّما سنعدهم بنصر حقيقيّ”.
كم كنّا محظوظين أنّنا عملنا مع فيصل؛ ولكم شبعنا من عهركم أيّها العرب. كم دسمنا من وعودكم ومن شعاراتكم الكاذبة، فتعالوا وانظروا كيف يسلبون من القدس، في يوم غفرانهم، سترها؛ وكيف يعرّونها ليطأوا جدائلها ويدخلوا في عروقها.
وتعالي يا أمّةً “ضحكت من جهلها الأمم” وشاهدي كيف تُذبح باسم الربّ حوريّتكم في هياكل الاستغفار، وتُهتك جميلة الشرق، وتُباح حسناء القصائد وتُسبى سيّدة المهور والبخور والدخان.
“لقد كان فيصل قائدًا جريئًا وإنسانًا مميّزًا، تصرّف، دائمًا، بصرامة وبحكمة، بعذوبة وبوضوح وبحنكة.” فاجأني صديقي وأضاف: “لقد خشيه الصهاينة وعرفوا أنّه صادق وشجاع ووفيّ.” وافقته وكنّا على مشارف حاجز قلنديا عندما استذكرنا، معًا، ما قاله في لقاء عقده مع عشرات القياديّين الصهاينة الذين جاءوا ليسمعوه: “نحن نناضل من أجل تحرير شعبنا، وليس من أجل استعباد أيّ شعب آخر ، نحن نناضل من أجل إقامة دولتنا وليس من أجل تدمير دولة أخرى، نحن نكافح من أجل تأمين مستقبل آمن لأجيالنا القادمة وليس من أجل تهديد أمن أجيال أيّ شعب آخر.” تذكّرنا قائمة من غابوا بعده ومن صاروا “أسيادًا”، فشعرنا بغصّة صعبة.
يوقفنا جنديّ على الحاجز ويحاول أن يظهر رقّة مبتذلة، فينظر إلينا ويحذّرنا، بصوت رشيق لا يشبه صوت الجنود، أنّنا سندخل إلى مناطق فِلَسطينية معادية، ولذلك سنتحمّل، كمواطنين إسرائيليّين، المسؤولية عن قرارنا.
فكّرت لوهلة أن أسأله لماذا يفعل ذلك في هذا اليوم تحديدًا، أو أن أذكّره بأهل القدس الذين تركناهم سجناء في بيوتهم، وبالمستوطنين المعربدين في ساحات البلدة القديمة وفي أزقّتها، ولكنّي التزمت الصمت ولذت بعروة بسمة الفيصل.
دخلنا رام الله المحتلّة ومن ورائنا كانت صرخات القدس تفضح عهر أرباب هذا العصر وثغاءات جواريهم اللّواتي من زبد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *