جهاز التّربية والتّعليم في كفّ عِفريت رَجيم

مراسل حيفا نت | 20/09/2018

جهاز التّربية والتّعليم في كفّ عِفريت رَجيم

Haifa236.indd
أسعد موسى عودة
الكبابير \ حيفا

لطالما كتبتُ أو تناولتُ – أيّها الأعزّة – منذ سنين، في مئات مقالاتيَ الصِّحافيّة عن حالنا ومقالنا وسائر أعمالنا؛ عن لُغتنا ونحْنُ، الّتي بدأتْ أسبوعيّة، ثمّ أصبحت – بفعل عامل الوقت ووطأة الزّمن – شبه أسبوعيّة أو شهريّة، وأحيانًا حتّى فصليّة؛ مسألة التّربية والتّعليم في أرض حطّين، وهي المسألة الأخطر – في رأيي – في أيّ مجتمع ولأيّ أمّة تريد أن تكون؛ فكم بالحريّ مجتمعنا العربيّ الفِلَسطينيّ، النّاهض من رماد نكبته إلى كيّ جِراحاته، والماضي صوبَ صنع حياة جديدة. وبينما أنا منشغل بهذا الهمّ وغيره مَواطن الألم، لَفَتَني مقال منشور بالعبريّة للـﭙـروفسور يورام يوﭬـِل، في موقع “واي نِت”، يوم الرّابع عشر من أيلول الجاري، شهر انطلاق العرس التّربويّ – التّعليميّ – المدرسيّ على مدار عامٍ كلَّ عام، متناولًا فيه مسألة جهاز التّربية والتّعليم في البلاد. والــﭙـروفسور يورام يوﭬـِل هو أحد كبار علماء النّفس، وأحد كبار الباحثين في علم الدّماغ في إسرائيل، وهو ناشط، أيضًا، بمعارفه تلك، في الحيّز العامّ، كما أنّه حفيد العالم والفيلسوف العبريّ الفذّ، المرحوم يشعياهو لايْبوﭬـيتش، النّادم، أبدًا، على أنْ فاته تعلّم العربيّة!
يقول الــﭙـروفسور يورام يوﭬـِل في مستهلّ مقاله: “مثلما كتبت هنا، الأسبوع الفائت، إنّ تحصيل طلّاب إسرائيل في امتحانات PISA [Programme for International Student Assessment \ البرنامَج الدّوليّ لتقييم للطّلّاب – أ.م.ع.] الدّوليّة هو عيب وعار. إنّ تحصيل الطّلّاب اليهود، أبناء الشّعب الّذي كان التّفوّق علامته التّجاريّة، يترنّح عند معدّل دول OECD [Organization for Economic Co-operation and Development \ منظّمة التّعاون الاقتصاديّ والتّنمية – أ.م.ع.]، بعيدًا من وراء دول مثل ﭘـولندا وﭬـيتنام. لكنّ هذا ليس شيئًا يُذكر مقارنة بتحصيل الطّلّاب العرب؛ إنّ أداءهم [يعني الطّلّاب العرب – أ.م.ع.] بمستوى العالم الثّالث. لماذا جهاز التّربية والتّعليم عندنا فاشل؟ فالطّلّاب أذكياء، والمعلّمون يبذلون الكثير من الجهد، والأهالي يشجّعون، فكيف يُعقل أن تكون مدارسنا سيّئة إلى هذا الحدّ؟”
يجيب الــﭙـروفسور يورام يوﭬـِل عن هذا السّؤال، فيقول: “في رأيي، لسببين، يمكن تغييرهما إلى الأصلح. أوّلًا، لأنّ وزير التّربية والتّعليم، نفتالي بنط، والبيروقراطيّة [المكتبيّة – أ.م.ع.] الّتي يقف على رأسها، قد أدخلا مبدأ “القدرة على إدارة شؤون الدّولة” إلى مدارسنا، أيضًا. فتحْتَ عينيِ الوزير اليقظتين، قامت وزارة التّربية والتّعليم بإحكام سيطرتها على جميع مناحي المناهج التّعليميّة؛ فالمعلّمون في إسرائيل غير أحرار في اختيار ما يعلّمون، كيف يعلّمون، ولا حتّى بأيّ وتيرة يعلّمون. فكلّ شيء مقرَّر ومراقَب.”
ويضيف الــﭙـروفسور يورام يوﭬـِل: “إنّ السّيطرة على المعلّمين، والالتصاق بمناهج تعليميّة مفروضة من فوق لم تحسّن الأداء؛ لا بل إنّها قامت بعمليّة منع مستهدَف [أو إجهاض – أ.م.ع.] لفضول الطّلّاب، لمبادرة المعلّمين وحماسهم، الّذين باتوا متخصّصين خائفين وفاقدين لأيّ صلاحيّة تُذكر. فالمعلّمون كما الطّلّاب، اليوم، يكرهون الذّهاب إلى المدرسة.”
أمّا عن طرائق إصلاح هذا الوضع المشين في جهاز التّربية والتّعليم، فيطرح الــﭙـروفسور يورام يوﭬـِل ما يلي: “كيف نُصلح ذلك؟ نتعلّم من فنلندا. فهذا البلد الصّغير بنى لنفسه – خلال ثلاثين عامًا – جهاز تربية وتعليم رائعًا ومتفوّقًا، إذ يأتي العالم كلّه ليتعلّم منه. ليست هناك فروض بيتيّة تقريبًا. إنّ هناك استخدامًا مكثّفًا للحواسيب وللتّعلّم الذّاتيّ الملاءَم شخصيًّا، في الصّفّ. والأهمّ من ذلك كلّه – إنّ جهاز التّربية والتّعليم الفنلنديّ الجديد يتعامل مع المعلّمين كقادة ومربّين ذوي أهمّيّة كبيرة، ويمنحهم الاستقلاليّة والدّعم.”
ويُضيف الــﭙـروفسور يورام يوﭬـِل – في السّياق نفسه – ويقول: “إنّ جهاز التّربية والتّعليم الفنلنديّ يختار، مسبّقًا، أفضل المعلّمات والمعلّمين، يبذل فيهم روحه، يكافئُهم جيّدًاـ وأساسًا؛ يشّجع عقلهم الكبير وتفكيرهم الإبداعيّ. إنّه يدعم قراراتهم المستقلّة في وقت حقيقيّ. فالمعلّمة الفنلنديّة هي أشبه بشخصيّة مثاليّة، والنّتائج على التّوالي.”
ويُضيف: “إنّه [يعني جهاز التّربية والتّعليم الفنلنديّ – أ.م.ع.] يعلّم كيفيّة التّعلّم، ويغرس [في الطّلّاب – أ.م.ع.] الفضول والاهتمام. إنّ منهاجه التّعليميّ مَرِن، وإنّه يلائمه شخصيًّا لقدرات كلّ طالب. فالمَهَرة منهم يتقدّمون إلى الأمام بقواهم الذّاتيّة مع قليل من التّوجيه من طرفه، حيث في إمكانه أن يكرّس انتباهًا خاصًّا للطّلّاب المستصعِبين.”
ويقول الــﭙـروفسور يورام يوﭬـِل: “من حالفه الحظّ منّا والتقى – في صباه – معلّمة واحدة على الأقلّ كانت قائدة حقيقيّة، فلن ينساها أبدًا. لكنّ احتمال أن يلتقي أولادنا معلّمة كهذه يقترب من الصّفر. ليس لأنّ معلّمينا سيّئون، بل لأنّ الجهاز يخنقهم، ويجعلهم موظّفين يفتقرون إلى المبادرة […]”
“وماذا مع التّعليم الرّسميّ العربيّ؟”، يسأل الــﭙـروفسور يورام يوﭬـِل فيجيب، قائلًا: “إنّه بحاجة إلى عناية فائقة، ولربّما هو بحاجة إلى إنعاش. لو كنت وزير التّربية والتّعليم كنت سأتوجّه إلى ممثّلي القائمة المشتركة في الكنيست باقتراح لا يُمكن رفضه؛ مشروع قانون لتجنيد جميع خرّيجي الثّانويّات العرب لخدمة وطنيّة مدنيّة، تتمّ، فقط لا غير، في جهاز التّربية والتّعليم الرّسميّ العربيّ. كنت سأُدخل إلى كلّ صفّ – في كلّ مدرسة ابتدائيّة عربيّة – ثلاثة خرّيجي ثانويّة، ليرافقوه سنتين، وكنت سأكافئُهم مثل زملائهم اليهود في جيش الدّفاع الإسرائيليّ [هكذا يكتب الــﭙـروفسور يورام يوﭬـِل – أ.م.ع.] وفي الخدمة الوطنيّة؛ حيث سيتلقّون إرشادًا منظّمًا من وزارة التّربية والتّعليم، سيكونون حاضرين في جميع الدّروس، سيساعدون الطّلّاب المستصعِبين، سيقدّمون دروس تقوية، ولربّما الأهمّ من ذلك كلّه؛ سيساعدون المعلّمة في الحفاظ على النّظام والهدوء في الصّفّ.”
ويُضيف: “وهذا يأتي بي إلى السّبب الثّاني لفشل جهاز التّربية والتّعليم الإسرائيليّ. وفي هذه المشكلة العويصة – أعزّائيَ الآباء والأمّهات – أنا مذنب كما أنتم مذنبون. إنّ أبوّتنا\أمومتنا […] أبّوة\أمومة هليكوﭘـتر [طائرة مروحيّة – أ.م.ع.]، وهذه كارثة وطنيّة. فما هي أبوّة\أمومة الهليكوﭘـتر؟ إنّنا نحوم في أعقاب أولادنا 24\7، نلاحظ، مسبّقًا، كلّ عطل وكلّ معيق في طريقهم، ونقوم بالقضاء على أيّ تهديد محتمَل بإصرار وبيد من حديد. وإنّ ذلك مصدره أحسن النّوايا: إنّنا نريد أن نوفّر على أبنائنا مواجهة الصّعاب، المشاكل العويصة، وخيبات الأمل. إنّنا مستعدّون أن نحارب من أجلهم العالم كلّه، وخصوصًا معلّميهم.” وكم هو صادق – في هذا السّياق والسّباق – المثل الإنكليزيّ الشّهير:The road to hell is paved with good intentions ، وترجمته بتصرّف: الطّريق إلى جهنّم مفروش بالنّوايا الحسنة. [أ.م.ع.]
ويُتابع الــﭙـروفسور يورام يوﭬـِل، قائلًا: “ينقص المعلّمة، فقط، أن تجعر بابننا، أن تصرخ في وجهه أو أن تسكته. فمن تحسَب نفسها؟ إنّنا سنُريها. ونحن، فعلًا، نُريها. فالمعلّمون، مديرو المدارس، وجهاز التّربية والتّعليم كلّه، يعيشون حالة من الخوف الشّالّ من ضرباتنا. وهكذا نشأت حالة يغيب معها الهدوء في الصّفّ […]. فالطّلّاب يُزعجون بلا توقّف، والمعلّمات، اللّواتي لا حول لهنّ ولا قوّة، يكرّسن نصف وقت الدّرس في محاولات يائسة لفرض الهدوء في الصّفّ. فوزير التّربية والتّعليم لا يريد التّنازع مع الأهالي، فهم جمهور منتخِبيه المحتمَل، ولذا فهو لا يدعم المعلّمين، ولا يفرض الطّاعة في الدّروس. لا يمكن التّعلّم بهذا الشّكل. وفعلًا، هكذا لا يتعلّمون.”
ثمّ يُنهي الــﭙـروفسور يورام يوﭬـِل مقاله بالقول: “ما يجب أن يفعله نفتالي بنط – إذا ما أراد أن يُنقذ التّربية والتّعليم في البلاد – هو أن يبدأ حملة طوارئ لها أسنان: “هدوء، هنا نتعلّم”. والهدف: الهدوء التّامّ في كلّ صفّ في إسرائيل؛ حيث يكون التّحدّث برفع الإصبع أوّلًا. صفر هواتف ذكيّة [أو غبيّة – أ.م.ع.] وصفر إزعاج. وكلّ من يزعج يُطرد خارجًا إلى صفّ خاصّ بالمزعجين، حيث يعودون منه إذا ما التزموا الهدوء، فقط. والأهمّ من ذلك كلّه: الدّعم المتعاقب والقويّ للمعلّمين والمديرين، أمام الأهالي المتفلّتين العازمين على إنهاء الحساب معهم.”
إلى هنا كلام الــﭙـروفسور يورام يوﭬـِل. فيا كلّ أب، ويا كلّ أمّ، ويا كلّ طالب وطالبة، عربيّ وعربيّة في هذه البلاد، إنّه لكثير من دودنا من عودنا، فلْنلتفت إلى ما يُمكننا نحن القيام به حقًّا، من أجل إنقاذ ما لا يزال يمكن إنقاذه من الوضع الّذي آلت إليه مؤسّساتنا التّعليميّة، الرّسميّة منها والأهليّة على حدّ السّواء، من غياب شبه تامّ لذلك الجوّ الرّحمانيّ الرّحيميّ الّذي يجب أن يسود أُطرنا التّربويّة والتّعليميّة، لكي تكون. فما لم تنمُ براعمنا على مبدأ الاحترام الواعي للأب والأمّ والمعلّم، وعلى قِيَم التّراحم والتّسامح والعزّة والشّرف وحبّ العلم والمعرفة والتّسابق فيهما، فإنّا – والله – سنجد أنفسنا، عمّا قريب، شيبًا وشبّانًا، وحوشًا في غاب؛ حيث كلّ منّا منصرف إلى شأنه وتغذية غرائزه الحيوانيّة ليس إلّا، بعد أن نكون قد فقدنا القدرة على التّواصل والحوار وقبول الآخر، بل بعد أن نكون قد فقدنا القدرة على النّطق أصلًا، وما الإنسان منّا إلّا حيوان ناطق؛ وذلك من خلال أحدث ما تقدّمه تكنولوجيا العصر لنا، من هواتف ذكيّة وألواح محوسبة وغيرها، في ظلّ غياب التّربية لدينا، نحن – المجتمعات الاستهلاكيّة – لحسن استيعاب هذه الثّورة التّكنولوجيّة العصريّة. وقَبْلًا وبَعْدًا، سنجد أنفسنا، عمّا قريب، مشلولي القدرة على التّعامل مع واقعنا المَعيش بأجزائه وكلّيّته؛ حيث إنّ تلك القدرة لا تتأتّى إلّا من خلال التّعاطي الحقّ لفعليِ القراءة والثّقافة، وبجرعات عالية جدًّا، منذ طفولتنا الغضّة. ومحدّثكم – أيّها الأعزّة – يتعاطى العربيّة وحَوالَيها، متعلّمًا ومعلّمًا، 24\7\365، ولكن بعيدًا، قدْر الإمكان، مع بالغ الألم من هذا البُهتان، عمّا لا يزال يُسمّى، اليوم، مدارس.
كان الله في عون كلّ معلّم حقّ، وكلّ معلّمة حقّة، اختار\ت هذه المهْنة المقدّسة بمحض إرادته\ها، وكان\ت أهلًا لها؛ وآمن\ت برسالتها السّامية ودأب\ت على تحقيق مصالحها العُليا؛ كان الله في عونهم على هذا المآل، حتّى تتبدّل الأحوال فيتبدّل المقال. وتذكّروا يا صِبيان ويا فِتيان ويا إخوان: إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم؛ فكفانا جبنًا وكذبًا ونفاقًا واستهلاكًا، وكفانا عن الله ابتعادًا. ذو العقل يَشْقى في النّعيم بعقله \ وأخو الجهالة في الشّقاوة يَنعَمُ. وقد خلق الله الملائكة بعقل من دون غريزة؛ وخلق الحيوانات بغريزة من دون عقل؛ وخلق الإنسان بعقل وغريزة؛ فمن غلبت غريزته على عقله كان أدنى من الحيوان، ومن غلب عقله على غريزته كان أرفع من الملائكة.
ولِي عودة منكم إليكم أيّها الأعزّة – إن شاء ربّ العزّة – للحديث، أبدًا، عن لُغتنا ونحْن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *