لا انعزال ولا انكفاء، بل جدليّة الوطن والمواطنة!

مراسل حيفا نت | 17/08/2018

لا انعزال ولا انكفاء، بل جدليّة الوطن والمواطنة!

رجا زعاترة
unnamed (1)
يوم السبت الماضي، 11 آب 2018، كنّا أمام تحدٍّ وطنيّ: هل نحن قادرون على إخراج عشرات الألوف من مجتمعنا للتظاهر ضدّ قانون وسياسية وحكومة ومنظومة تتنكّر لوجودهم ولحقوقهم وتنفي مستقبل أبنائهم في وطنهم؟ وكنّا أمام تحدٍّ ديمقراطيّ: هل نحن قادرون على جلب كتلة وازنة من الشعب الآخر إلى جانبنا على أساس مقولة مدنية ديمقراطية مشتركة وليس على أساس “حلف الدمّ”؟
كنّا على موعد ساخن، كآب اللّهّاب، مع امتحان مصيريّ. وعند الامتحان – كما هو معروف – يُكرم المرءُ أو يُهان: صنعنا مظاهرة مهيبة، تاريخية، ملأت الدنيا وشغلت الناس: شغلتنا، نحن – الباقين في الجليل والمثلث والنقب والساحل – وشغلت أبناء شعبنا في الأراضي المحتلّة وفي مواقع اللجوء والشتات، وشغلت العالم العربيّ والغربيّ. وأيضًا، بما لا يقلّ أهمّية: شغلت السياسة الإسرائيلية والرأي العامّ الإسرائيليّ. منذ أكتوبر 2000 والحرب على غزّة عام 2008-2009 لم يخرج هذا الكمّ من المتظاهرين العرب الفِلَسطينيّين. ولأوّل مرّة “يتدفّق” أبناء وبنات رهط وأمّ الفحم والناصرة ويركا وسخنين ومعليا وجسر الزرقاء وحيفا ويافا وعكّا واللدّ والرملة إلى قلب تل-أبيب بهذه الجحافل المؤلّفة. ولأوّل مرّة يسير إلى جانبهم آلاف المواطنين اليهود الرافضين للقانون العنصريّ، والمعارضين – بدرجات متفاوتة – للاحتلال والعنصرية والفاشية، والمؤيّدين – بدرجات متفاوتة – لحقّ الشعب العربيّ الفِلَسطينيّ في تقرير مصيره في وطنه.

• كلّ العرب ضدّ كلّ اليهود؟!
معظم اليهود الذين شاركوا في مظاهرة تل-أبيب يوم 11.8.2018 ليسوا “وطنيّين فِلَسطينيّين”، ولا تخفق قلوبهم عند سماع “موطني” و”علّي الكوفيّة”، ولا يعرفون العلت والخبّيزة، ولا يحفظون قصائد محمود درويش وتوفيق زيّاد وسميح القاسم عن ظهر قلب. وهم متنوّعون بدورهم. دوافعهم مختلفة وقد تبدو لنا غريبة ومتناقضة (“كيف يعني واحد صهيوني وضدّ قانون مغرق في الصهيونية؟”، “كيف هو ضدّ قانون القومية وبنفس الوقت مع وثيقة الاستقلال؟”). هذه “الصحوة” لقوى ما يسمّى باليسار الصِّهيونيّ، مهما كانت متأخّرة، هي تطوّر إيجابيّ علينا تحليله وبناء إستراتيجية للتعامل معه مستقبلًا، لهدف تعميق تناقضهم مع الصِّهيونية وسلخهم، قدْر الإمكان، عنها وعن أسسها الفكرية والسياسية. هم من انضمّوا إلينا وإلى قضيّتنا العادلة وإلى مطلبنا الحقّ. وهذا ما يهمّنا في هذه المرحلة: أن نُنتج معارضة كبيرة وحازمة للقانون وللسياسة الفاشيّة، ليس من الأقلّية القومية، فقط، بل من قطاعات واسعة بين الأكثرية القومية.
وهذا هو السؤال الجوهريّ اليوم على ساحتنا السياسية: هل نريد أن نكون وحدنا ضدّ “كلّ اليهود”؟ وهل موسي راز من “ميرتس” شأنه شأن نفتالي بينت وأورن حزان وميري ريـﭽـﭫ؟ وهل حركة “سلام الآن” شأنها شأن حركة “إم تِرْتْسُو” الفاشيّة أو عصابات “لهـﭭـاه” و”تدفيع الثمن” النازيّة؟ وأيّهما أشرف: موقف الشيوعيّ اليهوديّ دوﭪ حنين أم موقف “الليكوديّ الدرزيّ الصِّهيونيّ” أيوب قرّا أو “الآراميّ” شادي خلول، أو رؤساء بلديات ومجالس تقاعسوا عن تنظيم حافلات من قراهم ومدنهم؟

• معارك تنتج شركاءها
إنّ المعركة اليوم تتطلّب بناء قوّة سياسية كبيرة تتّسع لقوًى لا نتّفق معها على كلّ شيء. فليس كلّ من تظاهر معنا في تل-أبيب يؤيّد بالضرورة بدائلنا العميقة والاستراتيجية. ولو كانوا كذلك لانضَوَوْا في أحزابنا أو أقاموا أحزابًا تطرح طروحاتنا. الموازنة بين العمق من جهة والاتساع من جهة أخرى، بين الاستراتيجية والتكتيك إن شئتم، هي لبّ العمل السياسيّ. وهي تختلف من ساحة إلى أخرى: ففي مسيرة العودة يشارك معنا يهود مؤيّدون لحقّ العودة قد لا يؤيّدون “الأوتونوميا الثقافية” بالضرورة؛ وفي المظاهرات ضدّ الحرب يشارك معنا يهود مناهضون للحرب لكنّهم لا يؤيّدون حقّ العودة بالضرورة؛ وفي المعركة من أجل انتزاع الميزانيّات للقضايا المدنية يؤيّدنا يهود لا يؤيّدون الحقوق الجماعية بالضرورة؛ وفي المعركة لمنع شقّ شارع يصادر أرضًا عربية قد يشارك معنا يهود من منطلقات بيئية؛ وفي معركة لمنع شطب حزب أو إقصاء نائب\ة قد يقف معك من لا يوافق على كلّ طروحاتك بالضرورة. باختصار: لكلّ معركة حيثيّاتها وغاياتها، وكلّ معركة مصيرية من هذا النوع تنتج شركاءها وتعيد إنتاج شراكاتها. فهناك شركاء نتّفق مهم على 90% وآخرون نتّفق معهم على 60% أو على 20%. ويبقى السؤال الأساس: هل نرفض العمل المشترك في الـ20% إلى أن نتّفق على الـ90%؟ وهل العمل في مساحة الـ20% يعني تنازلك عن الـ90%؟

• بين الطُّهْرانيّة والانتهازيّة
لهذا السؤال – “العمق والاتساع” أو “الاستراتيجية والتكتيك” – أجوبة عديدة. كلّها شرعيّة طبعًا. فقد يقول قائل: أنا لا أعمل إلّا مع مَن هو مثلي تمامًا. وهذا يُفضي عادةً إلى ما يسمّى بـ”الطُّهْرانيّة”، أي: الكلّ كافر وفاسق وأنا وحدي المؤمن التقيّ\ الكلّ عميل ومتواطئ وأنا وحدي الوطنيّ\ الكلّ متخاذل وأنا وحدي الثوريّ\ الكلّ غبيّ وأنا وحدي عبقريّ زماني! وطبعًا يحقّ لكلّ إنسان أن يعتكف في صومعته الثورية النقية، بعيدًا عن الاحتكاك بالواقع وعن غبار التجربة التي تحتمل الخطأ والصواب. أين المشكلة؟ المشكلة أنّ هؤلاء عادةً انتقائيّون في هذا “النقاء”. فتجدهم يخوّنون من يذهب إلى الكنيست وبعضهم يستميت لكي يكون عضوًا في الكنيست (عذرًا.. في برلمان “الكيان الصِّهيونيّ الغاشم”)، أو يعيبون على الناس “الانخراط في مؤسّسات كيان الاحتلال” وهم يتقاضون راتب التقاعد من وزارة المعارف الإسرائيلية أو يتلقّون الدعم من وزارة الثقافة الإسرائيلية. باختصار: يحلّلون لأنفسهم ما يحرّمونه على سواهم!
ظاهرة أخرى قد تكون أكثر انتشارًا من الناحية العددية هي الانتهازية. فتجد النهج الانتهازيّ يفتح معركة ضروس من أجل نصف أو ربع كرسيّ في الكنيست ليقسم يمين الولاء للدولة، ويشغّل كلّ وساطات العالم ليحظى بوظيفة في جامعة إسرائيلية، ويبني مشروعه السياسيّ على “المواطنة الكاملة” وعلى الاندماج وتشغيل العرب في شركة الكهرَباء، ثمّ يدير ظهره للمواطنة وخطاب المواطنة وقيم المواطنة. وتجده يعتبر أنّ “إغلاق” شارع مغلق بين البارات في “شارع بن غوريون” في حيفا هو “خرق ثوريّ غير مسبوق”، ولكن التظاهر بعشرات الألوف في “ساحة رابين” في تل-أبيب هو خيانة وأسرلة لا تُحمد عقباها. وتجده يكتب في الفيسبوك أنّ بلدية حيفا هي “بلدية الاستعمار”.. ثمّ يذهب إلى “بلدية الاستعمار” متسوّلًا ربع وظيفة في مركَز جماهيريّ، أو يأتيك متوسّلًا التحالف معه وإنقاذه من نسبة الحسم. باختصار: يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يقولون!

• جدليّة الوطن والمواطنة
إنّ اختزال النقاش حول المظاهرة ومعناها ومطالبها في بعض الأعلام أو بعض الهتافات هو أمر استخدمه نتنياهو للتحريض على المظاهرة ونزع شرعيّتها. وأغلب الظنّ أن نتنياهو كان سيجد أيّ شيء للتحريض ضدّنا. ومع ذلك فإنّ من يريد إنتاج سيرورة نضالية حقيقية، تتجاوز استعراضات واستقراءات وإرهاصات وشرنقات ومزايدات “الهُويّة”، عليه أن يولي شيئًا من التفكير للسؤال البسيط الذي يدركه الإنسان العاديّ بالفطرة: ما هو المهمّ والأكثر أهمّية؟ وما هو المُلحّ والراهن والأقلّ راهنيّة وعلائقيّة؟ وهل ما يصحّ في مسيرة العودة أو يوم الأرض أو ذكرى أكتوبر في سخنين أو صفّورية أو أمّ الحيران، يصحّ هو ذاته في تل-أبيب؟
ولكن النقاش ليس على الرموز فحسْب، هذا أحد عوارضه. فثمّة نقاش حقيقيّ وجِدِّيّ وعميق، أعتقد أنّه يمكن إجماله بالتالي: هل نمضي إلى هذه المعركة بخطاب الوطن وحدَه، أم بخطاب المواطنة وحدَه، أم بكليْهما معًا؟ وأعتقد أنّ هناك هوامش في مجتمعنا ترى أنّ الحلّ هو اعتماد خطاب الوطن وحدَه، وهناك قطاعات تميل إلى اعتماد خطاب المواطنة وحدَه. ولكنّ التيّار المركَزيّ في مجتمعنا، كما يبدو لي على الأقلّ، يميل إلى اعتماد جدلية الوطن والمواطنة. أي القول: نعم، نحن جزء من شعب مظلوم يكافح من أجل حقوقه الأساسية كشعب؛ وفي الوقت نفسه نحن جزء من المواطنين في هذه الدولة، نشتقّ مواطنتنا من انتمائنا ولا نقبل أن نكون مواطنين من الدرجة الثانية. وعلى كلّ من يريد العيش في دولة ديمقراطية حقًّا وعادلة فعلًا أن يضع يده في يدنا من أجل تغيير هذا الواقع، بدءًا من إسقاط القانون.
خارج هذه الجدلية تقف – من ناحية – قوًى مثل “أبناء البلد”، تدعو إلى الانعزال طوعًا عن الحلبة السياسية وعن المواطنة. ومن الناحية الأخرى تقف توجّهات قد يعبّر عنها النائب زهير بهلول، تمثّل انكفاءً عن القضية الوطنية وعن خطاب الوطن. أمّا في إطار هذه الجدلية فثمّة متّسع لأكثر من اجتهاد وأكثر من توجّه. هناك اجتهاد يقول بأنّ الشركاء المحتملين في النضال ضدّ الفاشية المحدقة هم، فقط، من نزعوا عنهم عباءة الصِّهيونية وأعلنوا انضمامهم إلى الحركة الوطنية الفِلَسطينية، وبأنّ الجمهور الهدف الممكن هو بضع عشرات اليهود الذين يعيشون على قارعة الهامش في تل-أبيب ويعتبرون النائبة حنين زعبي أيقونتهم المُلهِمة. وهناك، بالمقابل، اجتهاد يقول بأنّ من لديه ثقة في هُويّته الوطنية وفي طرحه السياسيّ لا يخشى الاشتباك مع قوًى صِهيونية، ولا يتهيّب من العمل المشترك المرحليّ أو الاستراتيجيّ، ولا يفوّت فرصة لتأجيج تناقض الصِّهيونية مع القيم الإنسانية والكونية.

• ماذا بعد؟
إنّ تجارب مقاومة الفاشيّة في أوروبا وفي أمريكا اللّاتينية تؤكّد أنّ نجاح النضال مرهون ببناء جبهة واسعة ومتعدّدة تعي جدولة الأولويّات والمهامّ في كلّ مرحلة. إنّها ليست معركة تحسمها عريضة أو التماس أو مظاهرة أو مسيرة سيّارات أو لقاء مع الاتّحاد الأوروبيّ؛ بل عملية تراكمية متصاعدة تتطلّب المثابرة والتخطيط بدقّة وحكمة، تأتي في سياقها المظاهرات والعرائض واللقاءات والمسيرات، هاجسها الأوّل والأخير: ما الذي يفيد نضالنا؟ وكيف نراكم عوامل القوّة؟
إنّ الطريق إلى إسقاط قانون القومية ما زالت طويلة. والطريق إلى إحقاق العدالة التاريخية في هذه الأرض أطول وأصعب. إنّ إسقاط القانون لا يعني إسقاط الظلم كلّه غدًا أو بعد غد. ولكنّ مهمّتنا اليوم هي تحويل الأزمة إلى فرصة: فرصة ليكون إسقاط القانون كسرًا لشوكة الظلم والظالمين ومقدّمةً لتهاوي المنظومة برمّتها. ونعوّل في هذا على شعبنا أوّلًا، وعلى عدالة قضيّتنا وقدرتها على استقطاب شركاء من الشعب الآخر.

(*) سكرتير مِنطقة حيفا للحزب الشيوعيّ، ورئيس لجنة الإعلام في لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *