في فلسطين، شباط اللبّاط ريحة الحرية فيه

مراسل حيفا نت | 18/02/2018

جواد بولس
قد يتحول يوم الثالث عشر من شباط الجاري إلى محطة مفصلية في حياة الحركة الأسيرة الفلسطينية وخطوة وطنية استنهاضية على طريق إعادة الوحدة العضوية لجميع فصائل العمل الوطني والإسلامي الفلسطيني؛ وإن ما زالت تلك الأماني في رسم التكهن وعرضةً للاختبار، سيبقى إعلان الأسرى الاداريين عن “مقاطعتهم كافة محاكم الاعتقال الاداري مقاطعة شاملة ونهائية غير مسقوفة زمنيًا ” بمثابة البشرى لانطلاقة واعدة نحو إعادة ترتيب علاقة الحركة الأسيرة بسجانها الإسرائيلي، وذلك بعد سنوات طغى فيها الالتباس وغشت “فوضى العشائر” عيون المناضلين والحكماء، وتفشت تقليعات هجينة وطارئة شوّهت موروث المناضلين المؤسسين وأشاعت حالة من العمى المؤذي والانحراف عن مسارات الصمود والأمل.
علق البعض على إعلان الخطوة بأنها جاءت متأخرة، وآخرون تساءلوا عن جدواها وذريعتهم تستجير بحالة الحركة الأسيرة الداخلية. في المقابل هنالك قلة تراهن على فشل الخطوة السريع وعودة أوضاع الأسرى إلى ما كانت عليه، ففي فلسطين لن يقلع طائر الرماد وكثيرون يسكبون الماء ويطفئون ما تبقى من جمر النضال والعزة والصمود، هكذا يدعي هؤلاء.
03(5)
من كان أسدًا فلا حاجة لأن يزأر
في الواقع من يقرأ بيان الأسرى ويدقق في سطوره وبين كلماتها يرى إنهم استقدموا بعض تساؤلات الناس وحاولوا وضع الاجابات عليها بوضوح وذلك من خلال مراجعة صادقة لتجربتهم وإقرارهم أن إسرائيل عمدت إلى تصعيد حملاتها الاعتقالية منذ انتفاضة عام 1987، وعلى الرغم من محاولة أجهزتها الأمنية تغليف هذه الاعتقالات الادارية باجراءات قضائية فهذه لم تكن في الواقع إلا مسرحيات، والمحاكم، على أنواعها ودرجاتها، كانت مجرد أدوات تنفيذية تعمل بإيحاء وتحت تأثير جهاز المخابرات العامة ووفق سيناريوهات مكرورة حتى الملل وخالية من قواعد التقاضي النزيه، حيث لا يملك أمامها المحامون فرصة للدفاع الحقيقي عن موكليهم الأسرى الذين يؤسرون، أصلًا، من دون أن يواجهوا بتهم عينية ولا ببيّنات مكشوفة، وكل ما يقدم للقضاة يكون عبارة عن مواد سرية وملفات مكتومة يطالب، بناء عليها، ممثلو النيابات العامة بسجن الأسير لأنه وهو حر يشكل “خطرًا على أمن وسلامة الجمهور” !
علاوة على هذا التوصيف الصحيح والاستنتاج الضروري يؤكد بيان الأسرى على قناعاتهم بأن القيمين على رسم سياسة الاعتقال الادراي صعدوا خلال السنوات الماضية من إجراءاتهم بشكل خطير واستهدفوا آلاف المواطنين لكنهم عمدوا بشكل خاص على إعادة اعتقال نفس مجموعات الأشخاص حتى أننا نجد اليوم في السجون عشرات الأسرى الاداريين الذين أمضوا أكثر من عشر سنوات من دون تهمة عينية أو فرصة دفاع حقيقية . واللافت، إلى جانب ذلك، أن الأسرى يشيرون إلى أن هذه السياسة القمعية تفاقمت رغم بعض المحطات النضالية التي خاضوها وتمثلت بمقاطعة جزئية للمحاكم، وارجاع وجبات الطعام في السجون، ووصولا إلى اضراب عام 2014، الذي خاضه، لمدة 62 يومًا، عدد من الأسرى، إضافة إلى سلسلة من الاضرابات الفردية التي خاضها بعضهم ساعة احتجوا على اعتقالهم الاداري .
قد تكون بعض ملاحظات المهتمين وتساؤلاتهم صحيحة ومبررة، لكننا نقف اليوم عند أعتاب مرحلة جديدة، فخلاصة بيان المعتقلين الاداريين تعكس قناعتهم الموحدة وقرارهم الصارم على دخول المعركة بإرادة حرة وعزم وإسماع زئيرهم كالأسود.
فقد يكون رهانهم في الماضي على برق الوعود مغلوطًا ومعتمدًا على تقييمات خاطئة وإيمانهم بما قالته العرب مرهونًا ” فإذا كنت أسدًا فلا حاجة أن تزأر”، لكنهم دفعوا من سنين أعمارهم أنفس الأثمان، وضحوا في الغالي وتيقنوا أن على الأسود، وهي في ساحات الوغى، أن تزأر أحيانًا وتزأر، كي تحيا بكرامة وبوطن.
ما يميز هذه الخطوة، بخلاف كثيرات سبقت في تلك السنوات العجاف هو كونها خطوة أجمعت عليها جميع الفصائل وكونها سهلة التطبيق، فالقرار بمقاطعة المحاكم الاسرائيلية، على درجاتها، سيعتمد على الأسرى أنفسهم وعلى وحدتهم ومدى التزامهم وصمودهم .
بالمقابل، من الواضح أن الأسرى بحاجة إلى دعم وتعاطف شعبيين وإلى فعاليات إسنادية مؤسساتية مدروسة تنمي حالة من التضامن المؤثر وتبني مناخات تساعد على خلق روح نضالية متجددة، هذا بالتوازي مع ضرورة العمل على استجلاب دعم المؤسسات الحقوقية الدولية وجهات عالمية أخرى، برلمانية وحكومية، كانت قد عبرت في الماضي عن شجبها ومعارضتها لسياسة إسرائيل في الاعتقالات الادراية، والتواصل كذلك مع المؤسسات المعارضة وبعض الشخصيات الاعتبارية في داخل إسرائيل والتي أبدت في الماضي رفضها لطريقة ممارسة الجهات الأمنية الإسرائيلة سياسة الاعتقالات الجماعية ووصفتها بغير المبررة وغير الضرورية.
الكامل من عدت هفواته
في هذه الأيام تحتجز إسرائيل حوالي 450 أسيرًا اداريًا فلسطينيًا. اعتقال معظمهم قد تكرر لعدة مرات. من ضمنهم سنجد قاصريْن وثلاث سيدات من بينهن النائبة في المجلس التشريعي خالدة جرار. كثيرون منهم هرموا وهم ينتظرون “خشخشة” مفاتيح الفرج و”ساعة الشمس” الحقيقية.
ووفقًا لمتابعة “جمعية نادي الأسير الفلسطيني”، فلقد أصدرت قوات الأمن الاسرائيلية في العام 2015 حوالي 1248 أمرا إداريًا ( بين أوامر جديدة واوامر تمديد) بينما وصل عدد هذه الأوامر في العام 2016 إلى حوالي 1742 أمرًا، وفي العام 2017 إلى 1060 أمرًا؛ والأهم في هذا المشهد يبقى غياب القضاء بكل درجاته وعدم تصديه لهذه الظاهرة المنفلتة، خاصة المحكمة العليا الإسرائيلية التي أجازت بقراراتها العبثية، خلال عقود، للسلطات الأمنية الاسرائيلية تماديها غير المحدود.
جميع قضاة هذه المحكمة، على أجيالهم المتعاقبة، شاركوا فعليًا في “الجهد الحربي” وكانوا جنودًا مخلصين في معركة دولتهم ضد المواطنين الفلسطينيين. لقد تغاضوا عن قواعد العدل الأساسي وحقوق الانسان الطبيعية وفضلوا العمل وفق انتماءاتهم القومية والأيديولوجية في مسألة لو أرادوا لاستطاعوا أن يغيروا فيها كثيرًا، فجهاز المخابرات يعمل ككل جهاز يملك قوة كبيرة ويطمع بمدها “نحو السماء” خاصة اذا لك يجابه بكوابح القضاء ومنطق العدل.
ما زالت الخطوة في بداياتها وكل “الأطراف” تترقب كيف سيسلك “أهل الفرح” وهل سيصمدون ويُنجحون عرسهم وهو عرس الوطن ؟ فإذا فعلوها سيتشكل ضغط كبير على جهاز القضاء وعلى أصحاب القرار في إسرائيل، لأننا نعرف أن كمية الاعتقالات الإدراية لا تبررها دواعي أمنية حقيقية، وفي حالات كثيرة تمارس لهزم نفسيات الأسرى، لا سيما من يحظى منهم بمكانة اجتماعية واعتبارية مميزة، فيعاد اعتقالهم مرارًا ليتحولوا “وسائل للردع” و “لعينات” عاجزة أمام مجتمعاتها أو مهزومة .
في اعتقادي واذا نجحت خطوتهم ولم ينجح السجان باختراقها فسيكون كثيرون من هؤلاء الأسرى أول المستفيدين والمحررين .
يسأل البعض ما جدوى الخطوة والجواب في عبرة الماضي وفي ما عاناه مئات الأسرى عندما راهنوا، لسنوات طويلة، على عدل قضاء عاقر وضمائر نائمة لقضاة يرون أنفسهم حماة الخنادق وحراس أبراج أمن الدولة، لا أكثر ولا أقل.
سأراهن على قرار الأسرى الإداريين مع أنني عشت كشاهد على حالة الوهن التي عصفت وما زالت تعصف في أقفاص الحركة الأسيرة وصدورها ، لكنني أحس أن “شيئًا ما” مختلفًا قد حصل، فلقد شاخت المهانة ووصلت حد الهرم !
أسرى اليوم هم أحفاد لمناضلين بنوا هرمًا منيعًا كاملًا متكاملًا، وخلقوا واقعًا جعل العدو يعترف بانجازاتهم وبعلو قامتهم وتميزها، فعسى ما بدأه الاداريون في هذا الشباط الفلسطيني اللبّاط أن يثبت ما قالته العرب من قبل وبأن ” الكامل من تعد هفواته”. لقد عددنا هفواتكم فكفى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *