روضة غنايم: قصة مادج من حيفا إلى بيروت ومن بيروت إلى حيفا

مراسل حيفا نت | 20/10/2017

حيفا في ناعورة الزمان/حاراتٌ بيوتٌ وناس (10)
روضة غنايم مصوّرة وباحثة – حيفا
روضة غنايم: قصة مادج من حيفا إلى بيروت ومن بيروت إلى حيفا
في صباح يوم الجمعة الماضي كان لي لقاء مع السيدة وداد بحوث في بيتها الواقع في شارع عباس84. عندما اقتربت من البناية رأيتُ ثلاث نساء مُطلات من نافذة البيت، مبتسمات ملوحات بأيديهن مرحبات، ومشيرات إلى مدخل مصعد المنزل.بعد أن دخلت رحبنَ بي أيّما ترحيب، عرفتني صاحبة البيت ودادعلى ضيفاتها، وهن صديقتها السيدة فاردا وقريبتها ابنة عمتها السيدة مادج خوري.وهدف اللقاء كان معرفة المزيد عن الحياة الاجتماعية، وعن العائلات التي سكنت في الماضي وتسكن اليوم في حيَ عباس.فعائلة بحوث من العائلات الحيفاويّة الأصلانيّة المخضرمة وعائلة محيشيم أيضاً.امتد الحديث معهن لساعاتٍ طويلة، وقد سمعت منهن قصصّا مثيرة وشائقة عن حياتهن، وذكرياتهن من حيفا عامةً وحيّ عباس خاصةً.
ولغنى القصّص اخترت أن اكتب عنهن بشكل منفرد. ففي هذه المقالة أكتب عن السيدة مادج محيشيم – خوري.التي زرتها بعد أيام في بيتها الواقع في حيّ عباس وأكملنا حديثنا.مادج من مواليد مدينة حيفا عام 1932، وهي صاحبة مطعم “شوارما إميل” الذي تأسس عام 1966في حيفا، على يد زوجها الراحل إميل خوري.تعلمت مادج المدرسة الابتدائية والمرحلة الثانوية في مدرسة راهبات المحبة في حيفا، وفي إطار المدرسة مثّلت في العديد من المسرحيات، وإحدى المسرحيّات بعنوان “عواطف البنين” عُرضت أمام الجمهور العام على خشبة مسرح الراهبات.
وفي صباها وبعد عودتها من لبنان، تعلمت إدارة حسابات وطباعة في اللغة الإنجليزية والعبرية في “بيت هباكيد”. تزوجت في عام 1971 من إميل وأنجبا بنتين: إيمان وسحر،وعاشا في شارع عباس رقم10 سنوات طويلة. توفي إميل بعد زواجهما بأربعة أعوام نتيجة نوبة قلبية. تعيش اليوم في البنايات الحديثة في شارع المطران حجار 5 في حيّ عباس، وحديثاً ظهرت في فيديو “إعلان” لمسرحية “سنة الثلجة” لمسرح خشبة.

ملكة النَوّر
في البدء سألتها عن معنى اسمها غير المألوف قالت: “اسمي مأخوذ من قصة أحبّها والدي عن “ملكة النَوّر” التي كان اسمها مادج. وذات يوم زارتنا خالتي التي كانت تعيش في مصرلتبارك لأهلي بولادتي، فحين عرفت الاسم الذي منحوني إياه أهلي سألتهم بدهشة: “كيف تسمونها على اسم “ملكة النَوّر”، فأفضل أن تسمّوها نجاة “فسجل أهلي في الهوية اسم نجاة، ولكن نادوني بمادج وانا أحب اسمي”.
نيسان عام 1948
حدّثتني مادج عن نزوح عائلتها إلى بيروت في نيسان عام1948 قالت: “كان بيتنا في شارع الراهبات،عندما بدأت المناوشات سادت حيفا حالة من الفزع والهلع، بدأ الناس بالهرب خوفاً من القنابل والحرب، وفي صباح أحد الأيام سمعت من إحدى السيارات المارة من جانب بيتنا نداء بمكبر الصوت من رئيس بلدية حيفا “شبتاي ليفي” موجّه لأهالي حيفا العرب ويقول: لا تتركوا المدينة ستنتهي الحرب ونعيش بسلام سويةً”، وعلى الرغم من ذلك لم يطمئن والدي بسبب المجازر التي سمعنا عنها في دير ياسين والقرى”.
وإذ فعلاً رئيس بلدية حيفا وقتئذ “شبتاي ليفي” دعا العرب واليهود للعيش المشترك! لماذا لم يضع حدّا للطرد؟ أو وقف الصهاينة عن احتلال المدينة ووقف إطلاق النار والقتل؟ لماذا أحضروا السفن الصغيرة لتقوم بترحيل السكان العرب من حيفا؟ هل أوهموا العالم أن العرب غادروا محض إرادتهم! وهم كانوا مرغمين على الرحيل؟
الرحيل إلى لبنان
استطردت مُحدّثتي قائلةً: “طلب والدي من والدتي أن نسافر إلى بيروت، إلى خالي الذي كان يعيش هناك للاحتماء، والعودة ثانية بعد أن تهدأ الأوضاع. أبحرنا مساءً أنا ووالدتي وأشقائي في مركب صغير، يشبه مراكب الصيد، من ميناء حيفا وكان البحر هائجاً.وصلنا إلى بيروت صباحاً، وقضينا في الكرانتينا شهراً واحداً. وفي صباح أحد الأيام خرجت شقيقتي من الكارانتينا إلى الشارع، بعد أن طلبت الإذن من المسؤول فرأت راهبة من راهبات مدرسة المحبة من حيفا مارّة من جانب الكرانتينا، فدار حديث بينهن واستفسرت الراهبة عن مكوثنا. وبعد أن علمت أننا في الكرانتينا جاءت وأخرجتنا من هناك إلى دير راهبات المحبة في ساحة البرج في بيروت. فسألتنا ماذا نريد أن نفعل،أنا طلبت أن أعمل، كنت الكبيرة بين أشقائي. وشقيقتي ليلى طلبت أن تتعلم التمريض. فالراهبة أرسلتها إلى مستشفى الراهبات. وبقيّة أشقائي وشقيقتي الأطفال أدخلتهم ليتعلموا في المدارس وأما والدتي فمرضت وأدخلوها المستشفى”.
مادج 10
العمل في بيروت في أيام النزوح
وأكملت مادج حديثها عن عملها في بيروت قائلةً:”بعد أن دبّرت الراهبة شؤون الجميع. سألتني:”أي نوع من العمل ترغبين به؟” أجبتها:”أي عمل”. فقالت لي:”هل تحبين أن تعملي في كونديتوريا؟” اجبتها:”نعم أرغب بذلك”. فقالت لي:”شقيقي يملك كونديتوريا وسنذهب صباحاً إليه”.وصلنا عنده صباح غدٍ وقالت له الراهبة:”هذه فتاة فلسطينية أطلب منك أن تشغّلها عندك” فوافق على طلبها. بدأت أعمل في المحل وكان عمري ستة عشر عاما، ولم ينادِني صاحب المحل باسمي ربما استصعب لفظه، كان يناديني “البنت الفلسطينية”. وفي صباح كل يوم كنت أجمع الصبايا العاملات معي، أجلس معهن بشكل دائريّ وأحدثهن عن فلسطين وعن حيفا وعن الحرب.وذات يوم جاء صاحب العمل وكان عصبيّا،ناداني وسألني: “كل يوم أدخل أشاهدك تتحدثين مع الصبايا ماذا تقولين لهن؟” قلت له أنا ولدت في فلسطين ومررنا بظروف صعبة وحروب،أنقل إلى الصبايا تجربتي وأعرّفهن على بلادي. فهدأ وأصبح يعاملني أفضل واشتغلت هناك عاميين”.
العودة إلى حيفا
وفي أحد الأيام جاء ضابط إنجليزي يريد شراء بعض الحاجيات من المحل، وكنت أعمل على صندوق الدفع فقلت له: “أريد أن أطلب منك خدمة، والدي بقي في حيفا،إذاأعطيتك العنوان هل تستطيع أن تذهب وتقول له أن يعمل لنا معاملة لكي نعود إلى حيفا؟” فكان جوابه إيجابياً. فعلاً سافر الضابط إلى حيفا وذهب إلى العنوان الذي أعطيته إياه، كان لوالدي حانوت في أول شارع صهيون.وقتئذ والدي قدّم طلبا للمعاملة، وبعد أسبوعين جاء الرد أنه تمّت الموافقة على الطلب، ويجب أن نُحضّر أنفسنا للعودة إلى البلاد. كانت المعاملة عن طريق الصليب الأحمر. وصلنا إلى حيفا عن طريق راس الناقورة، وعدنا جميعا مع والدتي إلى حيفا”.
“عندما عدنا كان والدي قد سكن في بيت آخر جديد في شارع صهيون 16. وبعد عودتي بيومين أخذت أفكر ماذا سأفعل.بدأت في كتابة عدد من الرسائل،وسالت والدي:”كيف أستطيع إرسال هذه الرسائل أين البريد؟”فقال لي:”لمن سترسلين هذه الرسائل؟” أجبته: “إلى صديقاتي في بيروت” فقال لي: “يا بنتي لا توجد علاقات بين إسرائيل ولبنان، انسَي بيروت،والآن انصرفي إلى دراسة اللغة العبرية لأنها هي التي ستفيدك هنا في البلاد”.
مراحل التعليم والعمل في الدولة العبرية
استطردت قائلةً: “حينها سجّلني والدي لدورة اللغة العبرية في مدرسة راهبات المحبة، المعلم كان بولس كرّام، لم أستحسن التعليم هُناك. بعد الدرس الأول قررت عدم العودة.وتابعت لاحقاتعليم اللغة العبرية في معهد لتعليم اللغة العبرية، في مدرسة “إنكليش هاي سكول”،وعلّمني الراب وكان جميع الطلاب شباب من مصر والعراق وتركيا، مهاجرين جددامن اليهود القادمين من الدول العربية”.
مادج 3
العمل
وعن عملها الذي وجدته بسهولة، ربما الحظ لعب دوراً في ذلك. قالت مادج: “والدي توفي، وبعدها أردت أن أعمل. كنت أتقن اللغة الفرنسية والإنجليزية والعربية والعبرية حديثاً وطباعةً. في البداية عملت في شركة لتأمين السيارات.وعملت في بنك ديسكونت موظفة.وبعد عدة سنوات انتقلت للعمل في شركة أخرى في شارع هعتسمئوت ( الاستقلال- “الملوك”سابقاً) في شركة فيلدمان، وهي شركة زراعية تستورد أدوات زراعية، وتوفرها للمزارعين في أنحاء البلاد. وبعدها عملت سنوات طويلة سكرتيرة لمدير عام شركة (“المسبنوت” – أحواض بناء السفن) في حيفا. وخلال عملي هناك سافرت للعمل سنتين في لندن،وكان للشركة فرع هناك. وفي عام 1967 بعد انتهاء حرب الستة أيام، عُدت إلى حيفا وتابعت العمل في الشركة.
مادج هي امرأة عصامية ومثابرة،لم تدع الحياة تمر من جانبها، بل عاشتها بطولها وعرضها، اقتنصت الفرص في حياتها بحكمة ومهارة، إيمانها وإرادتها القوية للحياة جعلتها تنجح، ولم تكسرها الحرب والتهجير وكانت العودة إلى حيفا أمام أنظارها. قوة شخصيتها فتحت أمامها الكثير من فرص العمل، تعلمت وثقّفت نفسها بنفسها. لكل إنسان منّا قصته الحياتيّة الخاصة، فهذه المرأة تجوّلت في العالم بحقب تاريخية مختلفة، وعايشت التغيرات التي طرأت على البلاد، وخاصة حيفا.هاجرت إلى لبنان لتعودإلى البلاد وتجد دوله جديدة لغتها السائدة العبرية. قصتهاقصة فلسطين التي عايشت حقبا وتغيرات كثيرة. لكن مادج رست بعد جولاتها في كنف عائلتها الدافئة، واحتضنت موروث زوجها الذي تركه بعد رحيله في منتصف السبعينات، واستمرت بإدارته وتطويره إخلاصاً لزوجها الحبيب.
E- rawdagniam@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *