روضة غنايم:34شارع عباس حيفا بيت علي إبراهيم عاشور

مراسل حيفا نت | 13/10/2017

حيفا في ناعورة الزمان/حاراتٌ بيوتٌ وناس (9)
روضة غنايم مصوّرة وباحثة – حيفا
روضة غنايم:34شارع عباس حيفا بيت علي إبراهيم عاشور
من يأتي سيراً إلى شارع عباس من منطقة الهدار، ماراًبمدرسة راهبات الناصرة،ومستمراً صعوداً في الشارع،عابراً من تحت جسر حديقة البهائيين، يصل بعد عدد من البيوت إلى بيت في شارع عباس34 الواقع إلى يسار الشارع.لا بد أن تلفت البناية نظرعابري السبيل،لأن شكلها يوحي بسفينة بحريّة. وكأن البناية تشبه أو تعبّر عن سكانها.ففي هذه البناية عاش في طابقها الأول، عشرات العقود، السياسي المحنّك ابن مدينة غزّة البحرّية علي إبراهيم عاشور.ربما صدفة أو أن القدر اختار العيش في بناية السفينة ليبقى مبحراً قلباً مع غزة وقالباً مع حيفا.أليس البحرهوالذي يوصل بين المدينتين؟ ولكن غُبن الاحتلال فعل ما فعله..
علي عاشور مناضل سياسي، صحافي وشاعر.ولد في مدينة غزة في تاريخ 20.9.1926،والده إبراهيم عاشور كان شيخ غزة وعالماً من كبار رجال الدين المسلمين وخريج الأزهر في مصر.
تعلم علي عاشور في المدرسّة الابتدائية في مدينة غزة،وانتقل إلى المرحلة الثانوية في المدرسة الراشدية في مدينة القدس. بعدأن تخرّج بتفوّق عُين مُدرّساً في مدينة خان يونس.وكان عضواً في الحزب الشيوعي الفلسطيني، وسكرتير الحزب في غزة والمنطقة. وكان من مؤسسي الحركة النقابية في غزة. وفي بداية الأربعينات انضم إلى عصبة التحرر الوطني.وكان أخواله مسئولين في الحزب، منهم أسعد مكي. ووقتئذ عمل علي عاشور بشكل سرّيّ وكان اسمه الحركيًّ في غزة “أنور سعيد”،وذلك لأنه كان مُدرّساًويُحظر عليه العمل السياسيّ.
كيف وصل علي عاشور من مدينة غزة إلى حيفا؟
بعد قرار هيئة الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين إلى دولتين، كتب الشيوعيون آنذاك منشوراً ينص ألا يترك العرب البلاد، موضحاً ومقيّماً الوضع الراهن في ذلك الحين. طُبع المنشور في الخليل، في المطبعة التي عمل فيها عودة الأشهب(أبوعدنان).أحضر عودة الأشهب سراً المناشير إلى غزة.وبالاتفاق مع علي أحضرها إلى أحد المقاهي ووضعها على طاولة، وانصرف دون أن يتحدث أحدهما مع الأخر. بعدأن ترك الأشهب المقهى طلب عاشور من ولد صغير السن أن يوصل المناشير إلى بيت والده إبراهيم. في الطريق فتح الولد المناشير وقام بتوزيعها على الناس بشكل عفويّ وطفوليّ. عثرت الشرطة المصرية على المنشور وسألت الولد ممن حصل على المناشير، فأجاب الطفل من الأستاذ علي عاشور.وهكذا ألقت الشرطة القبض على علي عاشور.
اعتقل عاشور في المعتقل المصري “أبو عجيلة” في صحراء سيناء، الواقع بين العريش والإسماعلية،وكان المعتقل في وادٍ تحيطه الجبال العالية التي كان يعتليها الجنود. وأما المعتقلون فكانوا محتجزين في الوادي، في خيام مغلقة.مكث عاشور في المعتقل عدة شهور هو ورفاقه،منهم عودة الأشهب،محمد خاص،سليم القاسم، حسن أبو عيشه وخاله أسعد مكّي وآخرون. وسجن المصريون أيضاً في المعتقل سياسيين يساريين وإخوان مسلمين.
ولكي أتعرف من كثب على حياة المناضل علي عاشور التقيت نجله كامل عاشور(أبو علي) الذي يعيش اليوم في نفس البيت مع زوجته رافية،وبناتهما الثلاث حنان، سلمى ومنى ونجلهماعلي.
حدّثني كامل عن فترة اعتقال والده وعن كيفية وصوله إلى مدينة حيفا، وعن كثير من الذكريات.وخلال الحديث جلس معنا في الصالون ابنه علي مستمعاً بشغف إلى حديث والده عن جدّه، الذي أحبه جداً ويفتخر به ويحمل اسمه.وقال كامل: “حدّثني والدي في أحد الأيام عن حادثة جرت في المعتقل.في إحدى الليالي استيقظ عودة الأشهب ليدخل الحمّام،فسمع ضابطين يقولان: “جاء قرار من مصر لقتل المعتقلين السياسيين فكيف يجب علينا أن ننفذ عملية قتلهم؟ عندنا حوالي مئة وخمسون معتقلا” فأجابه الضابط الثاني:”نفتح الخيام ونتركهم يهربون، وهكذا نطلق الرصاص عليهم”.فعاد الأشهب فوراًإلى رفاقه وأخبرهم عمّا سمعه من الضابطين. ولكن بعد يوميين نشبت حرب 1948 وقصف الطيران الإسرائيلي المعتقل واحتله.وأما المعتقلون فيه أخذوهم مع أسرى الجيش المصري ووضعوهم في بئر السبع. وبعد عدة شهور أطلقوا سراح الجنود المصريين، ولكن الأسرى السياسيين نقلوا إلى سجن عتليت ومنه إلى الناصرة. بعد قيام الدولة وبمساعدة قادة الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وبأمر من محكمة العدل العليا تم الإفراج عنهم.وهكذاوصل إلى حيفا كل من علي عاشور، محمد خاص، عودة الأشهب وأسعد مكي.
استطرد كامل قائلا: “في بداية الخمسينات أقام والدي وخاله المناضل أسعد مكي في بيت إميل حبيبي في شارع عباس.وبعد أن استقرت الأوضاع أراد والدي العودة إلى غزة، لكن رفاقه في الحزب أخبروه بأنه محكوم عليه بالإعدام في مصر، هو وأسعد مكي.وإذا وصلا غزة سيقتلان، وهكذا بقي في حيفا وأقام فيها”
عمل علي عاشور مديراً لبقالة ومطعم”قوت الكادحين التعاونية” التي كانت تقع في شارع الخوري في حيّ وادي النسناس. وعمل مديراً لمطبعة صحيفة الاتحاد. وكان في هيئة تحرير “الاتحاد” و”الجديد”، وفي فترة معينةكان نائب رئيس هيئة تحرير صحيفة “الاتحاد”. وكان عشرات السنوات عضواً في اللجنة المركزية في الحزب الشيوعي الإسرائيلي. وكان من مؤسسي “جمعية المبادرة الإسلامية” في حيفا عام 1976،كما عمل مترجماً لقصص وأشعار من العربية إلى الانجليزية وبالعكس.كتب عاشور المقالات السياسيّة والأدبيّة في صحيفة “الاتحاد” وفي مجلة “الجديد” وكتب الشعر في صحيفة “الاتحاد” تحت إسم مستعار أبو الهول دندن. في عام 1976 عُين مسئولاً عن ملف الطلاب في الدول الاشتراكية وانتقل ليعيش في براغ. وفي فترة لاحقة عمل صحافيا في مجلة “قضايا السلم والاشتراكية العالمية” في براغ. وبقي هناك حتى بداية التسعينات.وفي عام 1977 اشترك في أول لقاء رسمي للحزب الشيوعي ومنظمة التحرير الفلسطينية في براغ عاصمة تشيكوسلوفاكيا.
السياسي والصحافيّ علي عاشور (2)
حياته الشخصية
تزوج علي عاشور من سلمى شويري، وهي من مواليد مدينة عكا لبنانية الأصل، وتعارفامن خلال حركة الشبيبة الشيوعية. وسكنا أولا في شارع الطغرائي في وادي النسناس، وأنجبا ثلاثة أبناء: إبراهيم (طبيب) جمال (طبيب) كامل (مهندس). في بداية السبعينات من القرن الماضي استقر الجميع في بيت في شارع عباس 34 وقد أقام هناك قبلهم في البيت جبرا نقولا مع عائلته.
يقول كامل: “عاشرت والدي أكثر من سائر أشقائي.كنت مقرّبا منه كالأصدقاء، نخرج معا، نجلس في المطاعم ونتناول طعامنا، ونتحدث ساعاتٍ طويلة في أمور خاصة وأمور عامة، حول السياسة والحياة اليومية والراهنة. وربطتني بوالدي علاقة مميزة أكثر مما هو مألوف بين الابن وأبيه”.
“أذكر في طفولتي أيضاًأن محمود درويش زارناً يوماً وقال لوالدي أريد أن أحدّثك بأنني أريد أن أتنازل عن الهوية الإسرائيلية وجواز السفرالإسرائيلي وأترك البلاد.أذكر كيف أن والدي قال له لا تهجر البلاد ابقَ هنا يا محمود، وجرى نقاش بينهما ولكن في النهاية سافر محمود..”
بيت 34 عباس (1)
وتابع كامل قائلاً:”كان والدي هادئ الطبع جداً، علّمني أمرًا مهماً إذ قال لي يوما:”ياباإمش دغري لا تروح هيك ولا هيك ولا تخاف من حدا طالما أنت ماشي دغري” وهذه المقولة ورّثتها لأولادي”.
ويمضي كامل بحديثه عن والده قائلاً: “كان والدي يقرأ ويحلل الأوضاع السياسية بشكل عميق، وكان يتوقع كثيرا من الأمور نتيجة خبرته السياسية والصحفية، وفعلاً كان يحدث بعض ما يتوقع.فمثلاًتوقع مقتل رابين قبل اغتياله بستة شهور.وأذكرأنني سألته في أحد الأيام ونحن نجلس في ديوان البيت ونشاهد نشرة الأخبار:”يابا شو التوقعات ما بعد أوسلو؟”فقال لي: “سيبعثون الجيش لإخلاء المستوطنات، لكن سيقتل رابين”. وهذا ما حصل فعلاً.
وعن حادثة أخرى طريفة حدّثني كامل: “في حرب عام 1967 كانت الشرطة تبحث عن والدي.فكانت حكومة إسرائيل تعتقد أنه إذا هاجمت الدول العربيةإسرائيل،حينها سيسيطر سياسيون عرب في الداخل على الحكم. فبدأت الحكومة باعتقال السياسيين ومنهم والدي وسميح القاسم وآخرين.واختبأوا في بيت توفيق طوبي في وادي النسناس لأنه كان يتمتع بحصانة برلمانية.عرفت الشرطة مكان اختباء والدي ورفاقه فبدأت الشرطة تنادي عليهم بأسمائهم من الشارع لينزلوا وتردد: “انتم معتقلون”.فقال توفيق طوبي للرفاق انزلوا وبعدها ندبرالأمر. وبعد أن سلّموا أنفسهم وقيّدوا أيادي كل رفيقين بقيد واحد، والدي وسميح القاسم في نفس القيد.ركب كل اثنان في سيارة جيب شرطة مكشوفة وتوجهوا إلى مركز الشرطة.وأثناء السفر سمعوا صفارة الانذارفوقفت سيارات الجيب في منتصف الشارع، وهرب الشرطيان من سيارتهما للاحتماء، أما والدي وسميح فدخلا ملجأ آخر. بعد ربع ساعة سُمعت صفارة إنذار أخرى تشير إلى خروج الناس من الملاجئ. فخرج والدي وسميح من الملجأوشاهدا الشرطيين يبحثان عنهما، فقال والدي ممازحاأين ذهبتم يا جماعة، كنا نبحث عنكم.وأجابه أحد الشرطيين إذا جاء العرب واحتلوا البلاد فنحن لم نضرّكم بل عاملناكم بشكل جيد”.
ويقول كامل إنه سأل والده يوما:”كيف تفسر أن والدك شيخ وأنت شيوعي؟فأجابني والدي أنه في أحد الأيام سألني جدك:”ماذا تعني الشيوعية والاشتراكية”؟ فشرحت له.أجابني “بتعرف يا علي قوانينها غير بعيدة عن الشرائع الإسلامية، وفي الدين الإسلامي أعطوا حقوقا للمرأة. وأخبرني لن أعارض طريقك. هذه طريقك وهذا اختيارك”.وأضاف كامل:”والد جدي الشيخ عبدالرحمن،كان شيخاًوإماماً في الجامع في فترة الحكم العثماني.وعرضوا عليه منصب قاضٍ براتب عال.رفض ذلك لأنه لم يرغب أن يحكم على بشر، ولربما يصدر حكماًلن يكن عادلاً. لأنه خشي أن يكون حسابه عند الله عسيراً. هذه الميزات هي بالوراثة”.
وعن قصة أخرى حدّثني كامل:”كتب والدي مقالاً عن الديمقراطية، وعن ديمقراطية البيت، فقال في مقالته: “في أحد الأيام كنا نتناول طعام الغداء،وأناأحب الخبز المحمص على النار، طلبت من ابني إبراهيمأن يسخّن قطعة الخبز فلم يرضَ أن ينهض عن المائدة، توجهت لابني الأوسط جمال ولابني الأصغر كامل فلم يرضَ أحد منهما القيام،فنهضت أخيرالوحدي وسخّنت الخبز يعني هذا عارض وهذا عارض وبالتالي أنا قمت”.
وعن حادثة طريفة أخرى حدّثني:”كنت في الصف الرابع، بدأنا نتعلم الدين،لكن معلمة الدين الإسلامي ملك،طلبت أن يدخل المسيحيون إلى صف والمسلمون إلى صف آخر،وأما أنا فبقيت وحدي في الصف.ضحكت المعلمة وسألتني:”يا كامل ماذا أنت؟”أجبتها:”لا أعرف” قالت لي: “عندما تعود إلى البيت اسال والديك عن ديانتك”. في الأعياد المسحية كنانعيّد مع المسيحيين وفي الأعياد الإسلامية كنا نعيّد مع المسلمين. لم تكن تفرقة بين الأديان حينها”.
بعد التقاعد تفرّغ والدي لناولأحفاده، عشنا حياة جميلة بطولها وعرضها مع والدي، كان يحب طهي بعض الأطعمة فيذهب إلى السوق لاقتناء حاجيات البيت من خضار وأغراض، ويدلل أهل بيته. وكان كريماومضيافا. توفي والدي في براغ نتيجة سكتة قلبية في أيلول عام 1997 وأذكر يوم وفاته، كنت أستعدأنا وزوجتي رافية للخروج لرحلة مبيت في طبريا،جاءنا الخبر هاتفيا صباحا من المرحوم جورج طوبي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *