إبتكار… ضَع القوانين والقواعد جانبًا وابدأ التَّفكير من البداية – كما لو أن شيئاً لم يكن…

مراسل حيفا نت | 18/09/2017

في تاريخ 20.02.2009 قرع جرس الهاتف في مكتبي في معهد الهندسة التَّطبيقيَّة – التّخنيون. على الطّرف الثَّاني من الخط كان صوتٌ أُنثوي يُبلغني أن الرَّئيس شمعون بيرس يرغب في التَّحدُّث معي. وبالرَّغم من المعرفة طويلة الأمد مع الرَّئيس بيرس، إلا أن توقيت الاتِّصال الهاتفي فاجأَني، بل فاجأَني جِدًّا… فقد كان من المفترض أن يعلن الرئيس، في غضون ساعات قليلة، من الذي سيقوم بتشكيل الحكومة المقبلة لدولة إسرائيل، بعد معركة انتخابات عاصفة بشكلٍ خاص، بينما ما كان يشغله في هذه الدَّقائق هو التّحدّث مع عالِم! للحظة، خطر في ذهني سيناريو ظريف مبتكر جدًّا، وهو أن الرَّئيس يرغب في إلقاء مهمّة تشكيل الحكومة عليّ… نعم، نعم، عليّ… ذلك أنه واحد من عدد قليل من الناس الذين يؤمنون ويشجعون الابتكار وأنا رجل فعل وعمل…ولكن، أخشى ان هذا العرض لا يمت بالصلة إلى الواقع. فمن ناحية، أنا مشغول جدًّا في تطوير مستقبل أفضل للبشرية من خلال العلم والتكنولوجيا وليس لدي أي رغبة في التخلي عن هذه المهمة… ومن ناحية ثانية، ليس هناك واقع للابتكار لا يستند إلى أدوات مناسبة. وفي هذه الحالة، أنا لست مُنخرِطًا في السياسة، كما أنني لست رئيسًا لحزب، سواء كان صغيرًا أم كبيرًا.
وبينما كانت الأفكار تتداعى إلى رأسي، ارتفع صوت الرئيس على الطرف الآخر من الخط… وبعد أن حيَّاني، سألني عن آخر التطوّرات في الأبحاث التَّابعة لمجموعتي البحثيَّة- كما اعتاد أن يفعل كل بضعة أشهر- سواء كان ذلك من خلال مُحادثة هاتفيَّة أو لقاء شخصيّ. لكن في هذه المرَّة، كان مهتما في سماع الأشياء بمساعده مصطلح “الابتكار” (Innovation) وأنواعه… وهذا ما كان بالفعل…
مرَّت سنواتٌ عديدة منذ تلك المُحادثة الهاتفيَّة، التي بدأ بها حوار مستمر بيني وبين الرئيس بشأن مسألة الابتكار، حيث كانت المناقشات دائما مثيرة للاهتمام ومحفّزة لفهم هذه المسألة… وفي وقت لاحق، كان من دواعي سروري أن أتابع وأساهم مع الرئيس ومع آخرين ممَّن يهتمون بمستقبل أفضل للبشرية في قيادة إنشاء مراكز مبتكرة في الدوله والخارج… فما هو هذا “الابتكار” الذي أشغل اهتمام الكثيرين من رواد الفكر في البلاد وفي العالَم، حتى في الأوقات الحاسمه؟
الابتكار، كما يوحي اسمه، عملية ديناميكية للغاية، مطلوبة للتعامل مع المشاكل التي ليس لها حل بسيط وواضح، مثل، النقص العالمي في المياه وتدني جودتها، ارتفاع نسبة الإصابة بالأمراض والوفيات بسببها، الإنفجار السكاني، وما شابه ذلك… وتعريف الابتكار يتغيّر باختلاف الزّمان والمكان. من ناحية، يوجدُ الابتكار الثَّوري (disruptive / radical / breakthrough innovation) الذي يؤدّي إلى تغيير جوهريّ، وبالتَّالي يُشكِّلُ تهديدًا على النَّموذج القائم، وعليه، لأسفي الشّديد، فإنه من الصعب جدا المحافظة عليه مع مرور الوقت في المُؤسَّسات. عدم توفّر الوقت الكافي للتَّفكير يحول دون التّمكن من كسر النّموذج القائم ويؤدي إلى الإنحصار في حدود تخيّل المُنتَج والمُستهلِك القائم. التّوجّه الذي يتخطَّى المعارضة الاجتماعيَّة أو التّنظيميَّة هو الابتكار التَّدريجي (incremental)الذي يُتابِع ويُحسِّن ما هو قائم. مثال: في إسرائيل، الهايتك يتميَّز بالابتكار الثَّوري، بينما الصّناعات التَّقليديَّة تتَّصِف أكثر بالابتكار التَّدريجي.
بالرَّغم من الفروقات بين الابتكار الثَّوري والابتكار التَّدريجي، فإن لكليهما دلالة أساسيَّة مُشتركة تتمثَّل من خلال السّؤال “إلى أيّ مُستقبل نُريد الوصول، وكيف يُمكن تحقيق هذا المُستقبل؟”…للتَّعامُل مع هذه المسألة تُوجَدُ حاجة لمجموعةِ أدوات. إحدى الأدوات الأساسيَّة في هذه المجموعة هي “العلم”، ولكن، يتَّضِحُ أن العلم وحده لا يكفي لتحقيق الابتكار. مؤسَّسات ودول عديدة تُخصِّصُ ميزانيَّات هائلة للبحث الذي يُوَلِّدُ المعرفة، ولكن بالمُقابِل، هناك قليل من الاهتمام في التّطبيق العملي لهذه المعرفة. إذَن، السُّؤال الذي يطرح نفسه هو: ما هي مُرَكِّبات الابتكار وكيف يتم تطبيقُها؟
المُرَكِّب الأوَّل للابتكار هو المعرفة العمليَّة التي تُمَكِّن من تحديد الاحتياجات والمشاكل القائمة، والحاجة إلى إيجاد حلول لها. التشخيص الدَّقيق لمُركِّبات المُشكِلة، الذي يرتكز على أساس معرفي واسع ومنهجيَّات مُثبتة، إلى جانب التَّجربة الواسعة، كُلُّها تُبرِزُ التَّحدِّي وتُوجِّه إلى الحلول المُمكنة التي تأخذ بعين الاعتبار مُجمل وجهات النَّظَر وتزيد من إمكانيَّات النَّجاح.
المُرَكِّب الثَّاني هو الرُّؤية، وهو يصف المستقبل المنشود استنادًا إلى الحاضر الموجود. هذا المُرَكّب يُمكّن مِن تحديد هدف واضح يخلق الدافعية والشعور بالاتجاه. في هذا المُركّب من المهم جدًّا أن يتوفّر عنصر الإحساس بالحاجة الملحة، الذي بموجبه ينبغي بذل الجهد للقيام اليوم بما يمكنُ تأجيله إلى الغد!
المُركّب الثَّالث هو طرح أفكار للحَلّ. الفكرة المبتكرة هي إبداعيَّة، ولكنها عمليَّة وقابلة للتَّنفيذ. عمليَّة طرح الأفكار لحل المشكلة يتطلب، إذَن، إبداعًا ثوريًّا وأفكارًا مُتدفِّقة، بالإضافة إلى تفكير عملي أكثر. هناك العديد من المنهجيات لطرح الأفكار، ولكن ينبغي اختيار الطريقة الأكثر مُلاءَمةً للمؤسَّسة، لطبيعة المُشكلة التي تتطلَّب حلًّا، ولعدد الأشخاص المُشاركين في العمليَّة.
المُركّب الرابع هو اختيار الفكرة للتَّطبيق: وفرة الأفكار من أجل الحل تتطلب الفرز والفحص الدّقيق وفقًا لمعايير مختلفة. التكيف مع الاستراتيجية التنظيمية، درجة المخاطرة المطلوبة، القدرة على التَّطوير، إمكانيَّة التَّسويق وحتَّى “الحَدْس”- كُلُّها يُمكن أن تكون ذات صلة، وينبغي فحصها بشكل منهجي لتحديد الأفكار الجيِّدة التي وصلت إلى خط النهاية.
المُرَكِّب الخامس هو ترويج الفكرة لغرض استيعابها: تم اختيار الفكرة، وحتَّى كتبت خطة عمل مفصلة لها، ولكن الطريق لتنفيذها لا تزال طويلة: القيود الرَّاهنة والنَّقص في الموارد، إلى جانب الاعتراضات على التغيير الناجم عن الابتكار- كُل ذلك يُمكن أن يقطع الرِّحلة. رؤية العقبات عند اختيار الفكرة والاستعداد بمُساعدة أدوات مُثبَتَة يضمنان أن لا يحتضِر الابتكار في هذه المرحلة.
المُرَكِّب السَّادس هو تطبيق الفكرة حتَّى الابتكار: الابتكار هو عمليَّة أو مُنتَج، تدريجي أو ثوري. أثناء التطبيق، تنشأ مشاكل غير متوقعة تتطلب حلولا إبداعيَّة ومبتكرة من تلقاء نفسها. الرِّحلة تكتمل عند وصول المُنتَج إلى المُستهلك النّهائي أو أي طرف في المؤسسة يستفيد من ثمارها.
الابتكار يُمكن أيضًا أن يفشل، ولكن هذا أيضًا ليس من أجل لا شيء؛ الشّخص أو المؤسَّسة الابتكاريّة ينظُرانِ إلى الفشل على أنّه جزء من عمليَّة التَّعلُّم التي تُمَكِّن من التّغيير، التّحسين والنّجاح في الجولة المُقبِلة. وكما في كل رحلة، هنالك المُغامرات، التّحدِّيات والمصاعب التي تعترض الطَّريق، والنّشوة عندما ننجح في بلوغ القمَّة.
إذا كانت المُرَكِّبات المذكورة أعلاه تبدو لكم معقدة، دعوني أن اقترح عليكم الاستراتيجي التالي للابتكار: “ضَعوا القوانين والقواعد جانبًا وابدأوا التَّفكير من البداية – كما لو أن شيئاً لم يكن – فجذور الابتكار العظيم تتطلّب مناظير جديدة”…
الابتكار2

الابتكار

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *