روضة غنايم :بيت إميل توما قصّة بيت خَطها الزمّان/ شارع عباس 45

مراسل حيفا نت | 15/09/2017

حيفا في ناعورة الزمّان/حاراتٌ بيوتٌ وناس (6)
روضة غنايم مصورة وباحثة – حيفا
روضة غنايم: بيت إميل توما قصّة بيت خَطها الزمّان/ شارع عباس 45
كانت حيفا في قديم الزمّان عبارة عن جبل وبحر تتمطى أمواجه على اتساع المكان، لم يكن فيها شوارع مُعبّدة وبالتأكيد لم تُعطَ أسماء لأماكنها وحاراتها، ومع مرور الأيام تحوّلت رويدًا رويدًا إلى مدينة آهلة بالسكان. عُبدت فيها الطرقات وتحولت إلى شبكة من الشوارع الواسعة، بُنيت فيها كثير من المحلات التجاريّة، والمقاهي والحوانيت والبيوت والبنايات السكنية.وللأسف فإن كثيرًا من تلك المباني العربيّة التاريخيّة في حيفا قد اختفت مع مرور الأيام،ولم يبقَ منهاسوى قلة قليلة،التي حافظت على شكلها التقليديّ لتروي للأجيال القادمة قصّة دورة الحياة في المدينة الجميلة،ومن هذه المباني التي ما زالت تُحافظ على عبق الماضي، بناية من الحجرالمدقوق تقع في شارع (عباس45).في طابقها الثاني عاش المؤرخ والمفكر الدكتور إميل توما حتى يوم وفاته.
لهذه البنايّة قصة، جزء كبير منها عن سُكانها الذين تركوا بصماتهم في ثنايا الغرف والجدران، وأول دلالاتها التي يشاهدها المارّون في شارع عباس، لوحة رخامية بارزة مُثبتة على الجدار الخارجيّ للبنايّة،مكتوب عليها بأحرف بارزة “في هذا البيت عاش وأبدع المؤرخ والكاتب الفلسطيني إميل توما منذ العام 1949 وحتى وفاته عام 1985”. قصة البيت هي حكاية فلسطينية مع كل مواصفات الانتماء والاقتلاع، هي قصّة كل فلسطينيّ ذاق طعم التهجير القسريّ.
البداية…
مدخل بيت إميل توما عباس 45
في عام (1934) شَيدت البناية سيدة تنتمي للطائفة البهائيّة،وفق تصميم أعده المهندس المعروف
(يوسف برسكي) الذي أشرف على بناء معهد التخنيون القديم (معهد تكنولوجي) وفي نهاية الثلاثينيات تُوفيت صاحبة البناية وانتقلت ملكيتها للجماعة البهائية، التي تركزت أغلبيتها في شارع عباس.وفي بداية الأربعينيات حصل على البناية جبرائيل توما (والد إميل توما) مقابل أرض إمتلكها في جبل الكرمل (“يافية نوف” اليوم).
بعد عام (1948) ،أي بعد النكبة، مثلها مثل مئات المباني التي هُجّر أصحابها،أصبحت البناية مُلكاً للدولة بموجب قانون “أملاك الغائبين”،وفي عام (1949)، بعد عودة إميل من لبنان أقام فيها بغرفة صغيرة في إحدى الشقق في الطابق الثاني. وفي بقية الغرف سكنت عائلات فلسطينية كانت بلا مأوى، وفي عام (1954)انضمت إليه رفيقة دربه زوجته حايا،وبعد سنوات من النضال والإجراءات القضائيّة التي أدارها المحامي الراحل(حنا نقارة)مُمثل إميل توما وشقيقته أولغا طوبي- توما،تم استرجاع البنايّةلأصحابهاالأصليين.
إميل توما في سطور..
ولد الدكتور إميل توما في حيفا عام (1919) وتوفي في عام (1985). كان مؤرخاً ومفكراً وسياسياً بارزاً. وعام (1943) بادر مع عدد من رفاقه،بينهم توفيق طوبي، بولس فرح وإميل حبيبي إلى تأسيس “عصبة التحرر الوطني”، وأنتخب أمين سر العصبة.وكان من قيادة الحزب الشيوعي الإسرائيلي. في عام (1944) تأسست صحيفة “الاتحاد”، وكان إميل توما صاحبها الرسمي ومحررها المسؤول. وترأس لسنوات عديدة تحريرها وتحرير مجلة “الجديد” الثقافية. وفي عام (1968) حصل على الدكتوراه في موضوع التاريخ من معهد “الاستشراق للدراسات العليا” في موسكو. وبعد وفاته مباشرة تأسس معهد إميل توما للدراسات الفلسطينية والإسرائيلية،وفي عام (2004) تم تدشين زقاق على اسمه “درب الدكتور إميل توما” في حي وادي النسناس في حيفا. رُزق وزوجته ابناً واحداً هو ميخائيل.وكتب العديد من المقالات في المجالات السياسية والثقافية. من مؤلفاته: “جذور القضية الفلسطينية” (1968)، “منظمة التحرير الفلسطينية” (1986)، “الحركة القومية العربية والقضية الفلسطينية” (1984)، “الحركات الاجتماعية في الإسلام” (1979).
بعد وفاة إميل توما بقيت أرملته حايا في البيت. وفي عام (1987) رحل الابن ميخائيل من البلاد ليعيش في ألمانيا، وفي التسعينيات انتقلت حايا إلى بيت والدها في الكرمل، بعد أن تركة ليعيش في بيت للعجزة، وخلال هذه الفترة كانت تُؤجر البيت في عباس. وبعد وفاتها عام(2009) قرر ميخائيل أن يبيع البيت. حينما سألته: ألم تخطيء في بيع البيت؟ أجابني: “لا أستطيع الإجابة بشكل قاطع، ربما لو دارت الأيام لن أبيعه في الزمن الحاضر.ولكنني وقت بيعه في تلك اللحظة لم أرَ لي مستقبلاً هنا وكنت أعدّ نفسي للهجرة النهائيّة”.
2015
عباس 45
في شهر تموز في عام(2015)، التقيت بالكاتب (توفيق فياض) عند شقيقته (منيرة) التي تسكن في حي وادي الجمال، وبرفقة الصديقة(تمار بن عامي). وخلال حديث دار بيننا على مائدة الغداء عن الأيام الخوالي والذكريات،اقترحت على توفيق وتمار أن نذهب لزيارة بيت توما، لأن لهما صلة مع البناية وذكريات جميلة، فقبلا اقتراحي بالترحاب والفرّح..
عاش توفيق فياض ومحمود درويش بين عام(1965-1968) في نفس البنايّة. محمود عاش في شقة إميل توما خلال الفترة التي قضاها الأخيرمع عائلته في موسكو لإكمال رسالة الدكتوراه.وتوفيق عاش بجواره في الطابق السفلي،في نفس الفترة كانت تمار في بداية مشوارها كراقصة، وقد تطورت وبينها وبين محمود درويش علاقة حب،واعتادافي ذلك الوقت على اللقاء معاً في الشقة التي يسكنها في نفس البنايّة.
عندما زُرنا البيت كانت تسكُن فيه يوليا، وهي حلقة أخرى في تاريخ البيت.يوليا مهاجرة من الاتحاد السوفيتي سابقاً. وصلت إلى البلاد عام (1990)، عندما طرقنا باب بيتها فتحت لنا دون أن تسال من الطارق.. رحّبت بنا أيما ترحيب، وعندما أخبرها توفيق وتمار أن لهما ذكريات في هذا البيت،لم تضع حواجزاً أمامهما، بل تركتهما يفتحان الغرف ويدخلانها،ثم ينتقلان من غرفة إلى أخرى على إيقاع ذكريات الماضي.. لاحظتُ الابتسامات على محياهما، وبريق الدموع في مآقي العيون.
أحببت أن أستفسر عن الساكنة الجديدة في بيت إميل توما..في زيارتي الثانية لها سألتها:”كيف فتحت الباب لنا وجعلتنا ندخل دون أن تسألي من نحن وماذا نريد؟”أجابت: “أتفهم أن الناس الذين سكنوا هنا يوجد لهم ذكريات مع هذا المكان وهي مُختزنة في قلوبهم، وهذا يذكّرني بنفسي وبحلم عودتي إلى بيتي في أوكرانيا،وهو حلم لا أظنه سيتحقق،عندما أتذكر بيتي هناك أشعر برغبة الدخول والجلوس في غرفتي التي كبرت وترعرعت بين جدرانها، والأمر ألأهم لفتحي الباب، هو أن جدتي علّمتني منذ صغري،أن من يقرع بابك يجب عليك فتحه بدون أن تسألي من الطارق، وماذا يريد، حتى إذا كان الطارق شخصا لا تعرفينه أو لا تحبينه،فمن الواجب عليك إدخاله.لأنه ما أن قرع باب بيتك فبالتأكيد يريد مساعدة منك.ولذا عليناأولا فتح الباب، وبعدها نحاسب أنفسناإذا كان من الصواب فتحه أم لا،صحيح أن هُناك أبوابا نطرقها ولا تُفتح،وهذا يُخيّب آمالنا،لكن هذا لا يؤثر على قناعتي الراسخة بأن الأبواب يجب أن تُنفتح لكل من يطرقها،لأنهاوجدت من أجل أن تُفتح”.
سألتها:”هل تعرفين من كان صاحب هذه الشقة؟”أجابت: “في البداية لم أكن أعرف، لكن مع مرور الزمن اكتشفت من يكون”.فسألتها:”ماذا أثارت بك هذه المعرفة؟”فقالت :”سأكون صريحة معك، هاجرت إلى هذه البلاد وأنا مليئة بأفكار يمينية مناوئة للعرب، ورثتها من جدتي ووالدتي، حملتها معي طيلة سنوات حياتي حتى وصولي إلى حيفا.عندما بحثت عن بيت أستأجره وجدت هذا البيت، والحقيقة أنني أحببته من النظرة الأولى، ولم أدرك تماما أنني وقعت في حي عربي”.
وأضافت قائلة:”تدريجيا بدأت أشعر بالأجواء المحيطة بي، نتيجة زينة الميلاد الأضحى الحج..وبدأت أستوعب أنني أعيش في بيت مفكر ومؤرخ عربي كبير يعرفه الجميع،بمن فيهم سائقو سيارات الأجرة، الذين ما أن أذكر عنوان سكني حتى يقولون لي بتعجب”بيت إميل توما!” وهذا يعطيني إحساساً بالفخر”.بعد لحظة صمت عادت محدثتي لتقول:”نعم إنني غيرت كثيراً من مواقفي السابقة.بالنسبة لي أهم ما في الأمر هوأن يكون المرء إنسانا، تعلمين أني أعيش هنا وحدي مع أولادي،وتوصلت إلى قناعة بأنه إذا وجدت رجلا عربيا مناسبا لي فلن يمنعني أي عائق من الارتباط به”.
وبينما يوليا كانت تسرد لي قصتها لاحظت أن فوق موقد النار صورة لامرأة ولاحظت هي نظرتي الموجهة للصورة، فقالت بابتسامة:”هذه والدتي” وتذكرت في تلك اللحظة أنني خلال جلسة لي مع ميخائيل توما، رأيت في أحد ألبوماته صورة لوالده إميل قابعة في نفس المكان.
من اليسار إلى اليمين توفيق فياض تمار بن عامي روضة غنايم
قبل أن أودّع يوليا دخلت إلى الغرفة التي كانت في الماضي مكتبة إميل توما، واليوم هي غرفة عمل ابنها،وما زالت في الغرفة المكتبة التي كانت تحوي كتب الراحل إميل توما،وبعد أن تجولت في الغرفة، اتجهت إلى بلكون متصل بها، يشرف على البحر والميناء، ومنه منظر المدينة الأخاذ. عندهاوجدتني أقول في داخلي:”أبصرالكثيرون هذا المنظر من قبلي، وكل واحد منهم كانت له نظرته الخاصة به سجلها في خبايا الذاكرة”.
حين ودّعت يوليا نزلت الدرجات، درجة تلو أخرى، وقفت على ناصية الشارع، نظرت إلى البيت الذي سكنه إميل توما، تمعّنت في الشبابيك والبلكون، راودتني أفكار مختلفة. تأكد لي وأنا أستعيدها أن البيوت تبقى شامخة على مدى الأيام،وأما الناس فتسكن وتمضي وتبقى الذكريات منقوشة بها.
ملحوظة: في هذه الأيام البيت معروض للبيع!يا حبذا لو تضافرت جهود لاسترجاع البيت مرة أخرى، ربما يستثمر لصرح ثقافي أو أرشيف فلسطيني لمدينة حيفا.. هذا نداء هل من مستجيب؟!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *