روضة غنايم حيفا في ناعورة الزمّان/ حاراتٌ بيوتٌ وناسُ (2)

مراسل حيفا نت | 18/08/2017

حيفا في ناعورة الزمّان/ حاراتٌ بيوتٌ وناسُ (2)
وادي الصليب في حيفا بين الذاكرة والنسيان
روضة غنايم مصورة وباحثة – حيفا

أنشر في هذا العدد الجزء الثاني عن حيّ وادي الصليب، وسأتطرق إلى جولاتي التي رافقت بها أشخاصًا ارتبطت حياتهم بوادي الصليب.
من الأشخاص الذين التقيتهم في جولاتي في وادي الصليب والذين ارتبطت حياتهم بهذا الوادي أذكر منهم الفنان عبد عابدي، الدكتور سميح مسعود والمسرحيّ أديب جهشان. ولكل منهم ذكرياته الخاصة والمميزة..
مع المسرحيّ الفنان أديب جهشان عام 2016
ولد أديب جهشان عام 1943 في حي وادي الصليب، درج طارق رقم 1. وفي ظهيرة أحد أيام شهر أيار في عام 2016 تجوّلتُ مع أديب في عدة أماكن ارتبطت فيها طفولته، وأحد تلك الأماكن وأهمها بالنسبة له هو مسقط رأسه وادي الصليب.
ما أن وصَلنّا إلى موقع البيت لم نجد منه شيئاً، لأنه هُدم ومسح تمامًا. وقد حدّثني قائلاً: “بعد سقوط حيفا أرادت والدتي السفر إلى لبنان، لأن أعمامي هناك. أما أبي فقال لها إنه يريد البقاء في البيت ولن يتركه. ومع اشتداد وطأة الأحداث انتقلنا إلى عكا. كانت إقامتنا خارج سور عكا، وبعد شهرين انتقلنا للسكن بساحة عبود في البلدة القديمة، اشترت والدتي بيتا صغيرا بين دير الروم وبيت عمي، عندما تعرّضت عكا للقصف سقطت قذيفة على بيت عمي، وبعدها سقطت عكا فرجعنا إلى بيتنا في وادي الصليب. كان البيت فارغا منهوبا، سوى فرشة بقيت ممددة على مصطبته، كنت أبلغ أربع سنوات. عُدنا لتكوين حياتنا من جديد، اشترى أهلي بعض المحاصيل لبيع القهوة والبسكويت. في أحد الأيام جاءت مجموعة شباب مغاربة، من المهاجرين اليهود الذين سكنوا الحي في بداية الخمسينات. شربوا النبيذ، وبعد أن ثملوا شرعوا بتكسير المحل. بعد هذا الحدث، انتقلنا إلى وادي النسناس وأقمنا في بيت صغير في شارع الوادي رقم 16 مع عدد من العائلات، وضعونا في “الغيتو”. كان اقتراح أن نسكن في شارع عباس لكن أبي رفض، لأنه كان يعتقد أن الأهالي سيعودون إلى بيوتهم. وفي هذه الفترة عيّنت الحكومة لجنة شعبية لتوزيع البيوت، وكان في الحي مهاجرون غالبيتهم من رومانيا، حيث أقامت عائلات يهودية كثيرة في الوادي. أما بيتنا في وادي الصليب فأقامت فيه ثلاثة عائلات يهودية بالإيجار، وبعدها مسحت البلدية البيت حتى الأساس، كما عملت مع كثير من مباني الحي”.
ومضى أديب يقول: “طفولتي كانت غير عادية لأني ولدت في ظروف غير عادية، وفي زمن انتقل المجتمع الفلسطيني من أغلبية إلى أقلية، فقد تحولت إلى لاجئ في وطني. كان لا بد أن نعتاد على نمط حياة جديد لم يكن مألوفا لنا”.
جولتي مع الدكتور سميح مسعود عام 2015
في شهر نيسان 2015 زرت وادي الصليب برفقة الكاتب الدكتور سميح مسعود، الذي ولد وترعرع في حيفا عام 1938 وقد أقام مع عائلته في شارع الناصرة (“بار يهودا” اليوم) وما زال البيت قائما. درس في مدرسة البرج الحيفاويّة حتى الثالث ابتدائي، ثم هاجر مع والديه عام 1948 إلى بُرقة التي تنحدر منها عائلته.
اقتبس ما كتبه عقب تلك الزيارة حيث دوّنها في كتابه (حيفا.. بُرقة البحث عن الجذور) ذاكرة المكان في الجزء الثاني.
“بعدها توجهنا معًا نحو مدرسة البرج، واصلنا المشي بخطىّ ثابتة نحو شارع “ستانتون”، ومنه اتجهنا صعودًا نحو شارع البرج، تجاوزنا درج عجلون وبناية الشاذلية، وتوقفنا عند بيوت كثيرة، منها بيت عبد الرحمن الحاج رئيس بلدية حيفا الأسبق، وبيت كنفاني، ثم توقفنا أمام الباب الرئيسي للمدرسة.. مدرستي التي أغلقت أبوابها قبل سقوط حيفا بأيام قليلة، وما زالت تنتظر طلابها” قال. ويضيف: “واصلت روضة التقاط الصور لي وللمدرسة، وأثناء ذلك، كانت أطياف صور الماضي تتماوج أمامي، تذكرني بيوم إغلاق المدرسة في شهر شباط 1948، عندما أغلق حي البرج القريب من الحي اليهودي(الهدار). وتم الاستيلاء على درج عجلون وبناية الشاذلية، المشرفة على بيوت الأحياء العربية، وتوقفتُ عن الذهاب إلى مدرسة البرج في تلك الأيام المأساوية. سألتني روضة في تلك اللحظة: “ماذا جرى في آخر يوم من أيام المدرسة؟” أجبت بحزن واضح: “تجمع كل الطلبة في ساحة المدرسة، وأخبرنا مديرها أحمد كريم أن اليهود يُحاصرون المدرسة من كل الجهات، وليس لديه إمكانيات للدفاع عن المدرسين والطلاب”.
جولتي مع الفنان عبد عابدي في عام 2012
كنت أتردد إلى مرسَم الفنان عبد عابدي لأكتشف في كل زيارة عملا جديدًا ومُعبّرا، وأشاهد أعماله في الفنون البصريّة التي تُحاكي قصة شعبنا وتاريخنا من احتلال ولجوء وتشرد. وفي إحدى اللقاءات حدّثني عبد عن رحلة التهجير التي حلّت بالعائلة مثلما حلّت ببقية الشعب الفلسطينيّ.
ولد الفنان عبد عابدي عام 1942 في حارة الكنائس في حيفا. ويقول: “تبين فيما بعد لوالديّ أن أثناء الهجرة والتشرد من الأحياء العربية في حيفا. ترك كثيرون الأمتعة والأثاث وحتى القهوة على النار. وكان والدي بعكس الآخرين، فقد أصرّ على البقاء هنا، وبقي مع من بقي من مواطني حيفا. وحين عاد والدي بعد غيابنا من المهجر إلى البيت ليحمي بعض ما تبقى من أثاث وحاجيات فيه، وجد رجلا يهوديا متدينا داخل البيت، يعبث بمحتوياته. عندما طلب منه والدي الخروج من البيت، أشهر الرجل اليهودي مسدسا في وجهه وتركه خائبًا.
وفي زيارة أخرى لمرسمه لفت انتباهي وتساؤلاتي سلسلة أعمال من الجوارير التي كانت تملا المكان، وقد جمع حينها ما يقارب عشرين جارورًا، وأحدها كان جارور البلاطة من وادي الصليب، والذي يستعرض فيه بلاطة من أطلال البيت الذي سكنت فيه عائلته، وهو بيت عائلة رنّو. عرف أثناء شرح شقيقته أن قسمًا من طفولته قضاها في ذلك البيت. ما كان منه أن أخذ البلاطة ووضعها في موضع الجارور أثار الاقدام، إن للبلاطة مكان يؤرخ المكان والزمان إلى جانب ميزة البلاط الذي زيّن أرضية البيوت العربية في حيفا، يافا، نابلس وعكا..
وأخيراً انهي الحديث باقتباس، غسان كنفاني. عائد إلى حيفا.
“ولكن عليك أن تدرك الأشياء كما ينبغي وأنا أعرف أنك ذات يوم ستدرك هذه الأشياء، وتدرك أن أكبر جريمة يمكن لأي إنسان أن يرتكبها كائناً من كان، هي أن يعتقد ولو للحظة أن ضعف الآخرين وأخطاءهم هي التي تشكّل حقه في الوجود على حسابهم، وهي التي تبرر له أخطاءه وجرائمه”.
عبد عابدي في وادي الصليب - خلال جولتنا في شتاء 2012

المسرحيّ أديب جهشان في وادي الصليب

سميح المسعود يقف أمام باب مدرسته- مدرسة البرج (المدرسة الاسلامية)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *