وهبت عاصفة في فرنسا

مراسل حيفا نت | 17/08/2017

وهبت عاصفة في فرنسا
الانتخابات الرئاسية ونجاح مكرون والانعكاسات على الشرق الأوسط
مقدمة:
بدأت الانتخابات الرئاسية بدورها الأول في 23/ إبريل من هذا العام، وأتى الدور الثاني في 7/ مايو ليحقق النصر والفوز بالرئاسة لـ”إمانويل مكرون”، لتأتي بعدها الانتخابات البرلمانية، ويحصد حزب “إلى الأمام” الذي يرأسه “مكرون” النتائج الأهم. والجدير ذكره أن هذا الحزب حديث العهد في الحياة السياسية الفرنسية، حيث تأسس قبل حوالي عام من بدء الانتخابات. وهذا ما لفت الأنظار إليه وفي كيفية تحقيقه لهذه النجاحات وسهولتها بالنسبة له. فلم يسبق في الحياة السياسية الفرنسية رؤية ظاهرة مشابهة له على الأقل طول القرن العشرين. ويبقى السؤال والبحث في الظاهرة وكيفية تفسيرها، وما هو أثرها على السياستين الداخلية والخارجية )وهذه الأخيرة هي التي تهمنا أكثر(. ولفهم هذه الظاهرة علينا العودة إلى الظروف الداخلية.
ماذا نستخلص من هذه الانتخابات:
1. إن سقوط الأحزاب القديمة التي لم تتجدد فكرياً وأيديولوجياً، والتي عجزت عن تقديم برنامج يلبّي حاجات الشعب ويردّ على التحديات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية..
2. أتت الانتخابات لتشكل الفرصة/ الصدمة، والتي فاجأت الجميع وخاصة من كانوا عاجزين عن أي محتوى سياسي مقنع وقادر على تعبئة الجماهير حول برنامج يخدم للجميع.
3. إن الأحزاب التقليدية من أمثال حزب اليمين “الجمهوريين”، حزب اليسار “الاشتراكي” لم يدركاً قبل الانتخابات، أنهما أصبحا كجوزة جوفاء، وهذا ما سبب لهما الصدمة الكبرى.
4. لأول مرة منذ 40 عاماً لم يطرح أي حزب ماذا وكيف ستكون سياسته الخارجية. ففي السابق كان طرح برنامج السياسة الخارجية لأي حزب يدل على مدى طموح هذا الحزب للدخول في الساحة السياسية العالمية، من أجل لعب الدور الهام الذي يليق بفرنسا. ويمكن تفسير غياب هذا العنصر- أي غياب طرح برنامج السياسة الخارجية- إلى عمق الأزمة الاقتصادية القائمة في كل الدول الأوربية، وانشغال الجميع بقضايا بلادهم الداخلية والتي لم تحل بعد. وهذا ما فعله الناخبون في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في فرنسا، مما جعل الاهتمام بقضايا العالم يصبح أقل، وهذا بدوره يعتبر تراجعاً خطيراً عن الدور العالمي الذي كانت تلعبه فرنسا. لكن من كان مستثنى من هذا التراجع هو حزب اليسار، الحزب الشيوعي، إضافة إلى تيار اليسار الاشتراكي الذي يمثله “بنوا آمون”، من أصل مجموع الأحزاب الثلاثة عشر والذين دخلوا الانتخابات.
5. الجديد في هذه الانتخابات مَقدرة “مكرون” على إقناع جزء لا بأس به من الطبقات الوسطى أنه يمثل تياراً، يذهب أبعد من اليمين واليسار على السواء. وبأنه لا توجد سياسة يمينية وسياسة يسارية، بل إن هناك سياسة جيدة وسياسة سيئة. وفي هذا الاحتمال perspective أو المنظور ويمكن أن نسمي ذلك la poste politique كمحاولة للوقوف أمام العولمة كما تقول Chantal MOUFFE أستاذة النظريات السياسية في لندن/ بريطانيا، وهي التي نظرت حول شعبوية اليسار في كتابها “وهم التوافق” الصادر عن دار النشر ALPIN MICHEL عام 2016. وهي التي أوحت إلى “جان لوك ميلنشون” بناء حركة حزب اليسار و “فرنسا المتمردة- LA FRANCE SOUMISE” والتي تجمع حزب اليسار والحزب الشيوعي الفرنسي، وكلاهما أدانا الخيار المكروني على اعتباره خياراً بديلاً للعولمة وهي الليبرالية الجديدة. وتقول في هذا الصدد “شانتال هوف”: «إن ما يجري في مجتمعات ما بعد الديمقراطية هو انتصار للنيو ليبرالية». وتوجز أن اختفاء التفريق بين اليمين واليسار هي مرحلة ما بعد la poste politique إي ما بعد السياسة. ومن هنا يفقد اليمين واليسار شرعيتهما التاريخية. يقول “آلان تورين” عالم الاجتماع ومدير الدراسات في مدرسة العلوم العليا EHESS: «في عالم جديد ضروري وخطير، فرنسا تشق طريقها بنفسها». ويؤكد أن عدم التوازن بين قوى الماضي وقوى متوجهة نحو المستقبل والتي صارت مرئية أكثر، إلى درجة أن الحكومة- يقصد حكومة هولاند وقتذاك- تبدو كأنها لم تزن مدى كبر النتائج- أنظر الليموند 2 حزيران 2017- ويؤكد أن “مكرون” فهم الشيء الأساسي ليس في علاقة الصراع بين اليمين في مواجهة واليسار وبالعكس، بل إن الخيار يكمن في العلاقة القائمة بين الماضي في مواجهة المستقبل، وهذا الخيار حسب رؤيته يعتمد على الاقتصاد المفتوح ضد كل المحاولات الانغلاقية كما تفعل بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، واللتان سوف تقعان في فخ العزلة والانغلاق، اللذان خلقوهما بأنفسهما- نفس المرجع. ويبقى السؤال الصعب والأخير الذي يطرحه “آلان تورين”: هل فرنسا متأكدة أنها تريد حل الأزمة؟ لكن الحل يكمن في إدراك وتعلم الفرنسيين حبّهم للمستقبل أكثر من حبهم للماضي.
تشكلت الحكومة الحالية من 30 وزيراً قسمت بالتساوي بين رجال ونساء وهذه الحكومة ستكون نهائية. ويبقى السؤال ماذا سوف يكون مصير هذه الحكومة في المستقبل القريب؟ فهذه الحكومة هي حكومة تكنوقراط، تمضي بدون إيديولوجيا جامعة لها، بل معتمدة على الكفاءات في خدمة المشروع المكروني، فالحكومة مؤلفة من أعضاء من اليمين واليسار والوسط والمجتمع المدني، وقد تم اختيارهم لكفاءاتهم، والشعب رضي عن ذلك. لكن هناك الكثير من التحديات التي تنتظر هذه الحكومة أهمها البطالة، الفقر، المساواة، والنمو الاقتصادي.
يعتمد الرئيس مكرون على دعم أوروبا، وهذا ما طلبه من قادتها في 27/ حزيران أمام المجلس الأوروبي، وأكد أن أوروبا يجب أن تكون حاضنة للمواطنين، لكن التحدي الأهم يكون مع بداية الإصلاحات الضرورية خلال الأسابيع والأشهر القادمة. فإذا استمرت هذه الحالة من الجمود والركود فإن هناك احتمالاً قوياً لحراك اجتماعي مهم تقوده النقابات والأحزاب. وربما خلال سنة أو أكثر قليلاً سوف تكون ردات الفعل متجاوزة حالة التظاهر. وربما تمضي إلى ثورة شعبية عامة وغير مسبوقة، ويصعب تجاهلها. وذلك لتعطّش الشعب للخروج من أزماته وإيجاد الحلول. وما ضعف الإقبال على التصويت في الانتخابات والذي تجاوز الـ50% بقليل إلا دليل على عدم رضا الناس، وكما يقال في المثل العربي “بلغ السيل الزبى”.
الظروف الداخلية في فرنسا قبل الانتخابات
كان المجتمع الفرنسي يعيش توتراً اجتماعياً غير مسبوق، قبيل الانتخابات الرئاسية الأخيرة، أي في الفترة الأخيرة التي عاشتها فرنسا في ظل الحكومة الاشتراكية برئاسة “فرانسوا هولاند”.
وتعود أسباب هذا التوتر إلى:
• فشل الحكومة في إيجاد حلول لقضية البطالة، حيث أصبح عدد العاطلين عن العمل يقدر بحوالي السبعة ملايين عامل.
• فشل الحكومة في محاربة الفقر والذي بدأ في حالة تزايد، حيث أن أكثر من خمسة ملايين فرنسي يعيشون الآن تحت خط الفقر، وهناك عدة ملايين دون ماء ولا كهرباء، ولا يأكلون أكثر من وجبة في اليوم.
لم تستطع الحكومة إيجاد حلول للأزمات الاقتصادية، السياسية، الاجتماعية، ولا حتى الفكرية، ولم تستطع حتى أن تقدم إشارات واضحة لمعالجة أزمة 2008، وخاصة في الفترة التي حكم فيها الرئيس “ساركوزي” 2008/ 2012، والتي عبّر فيها عن عجز واضح في إيجاد هذه الحلول، بل بالعكس تماماً مضى إلى تعميق هذه الأزمات. وتلتها فترة حكم “هولاند” 2012/ 2017 والتي أخفقت أيضاً في إيجاد الحلول الحقيقية.
وباختصار يمكن القول إن التيّارات الكبرى المتمثلة باليمين واليسار لم تستطع حل مشكلات الشعب الفرنسي. لذا بدأ التوتر المجتمعي يطفو على السطح، بعد إدراك الشعب عجز التيارين في إيجاد الحلول والمخرج لفرنسا. وفي خضّم هذا التوتر برزت وجوه وأحزاب جديدة تسمى بالشعبوية )مثال: الجبهة الوطنية- أقصى اليمين(.
في ذات تلك الفترة برزت الأصوات وعلت في محاربة الفساد وإدانته، وخاصة فساد الحكومات السابقة والتي تمثل في رئيس الوزراء السابق “فرانسوا فييون” في حقبة “ساركوزي”- )فساد اليمين(. والتي تم الكشف عنها خلال فترة ترشحه لرئاسة الدولة. وكذلك ظهور فساد “جيروم كوزاك Jerome Cahuzac” وزير المالية في حقبة “هولاند” وهذا يتماشى مع المثل العربي القائل «حاميها حراميها»..
كل هذه الظروف جعلت الشعب ينتقد كل الطبقة السياسية، وعبر عن عدم ثقته بالسياسة والسياسيين، مما وضع الأحزاب السياسية يميناً ويساراً في ظروف صعبة، وجعلها تقف عند مفارق طرق، وتسأل السؤال الكبير، ما العمل؟
وفي ظل هذه المناخات والأزمات وخيبات الشعب، ظهر أمل جديد عند الشعب الفرنسي متجسداً بإرادة جديدة وتجدد في السياسة ورجالاتها، وكان التعبير الأكبر عنها وجها جديدا وشابا له من العمر تسعة وثلاثين عاماً، حاصل على أعلى الشهادات في الـ(ENA) المدرسة الوطنية للإدارة. فقد درس علم المال والاقتصاد، وكان في حكومة “هولاند” وزيراً للاقتصاد والمالية لمدة عامين، وبعدها استقال من منصبه قائلاً: «رأيت النظام من داخله، وفهمت أنه غير قابل للإصلاح، وعاجز عن التغيير السياسي، الاقتصادي والاجتماعي، شأنه شأن الأحزاب».. إنه “إيمانويل ماكرون” هذا الإنسان المتعلم والمثقف، والذي يندر مثيله عند السياسيين، وسنتحدث عنه أكثر في الأسطر القادمة.
(يتبع)د.عماد صالح

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *