في طريقهم لتدريس التّاريخ

مراسل حيفا نت | 09/06/2017

طوني باسيلا

تميز لقائي الأخير بطلاب جامعة حيفا، يوم الثلاثاء الماضي، بشعور جميل وأجواء ورديّة حملت في طيّاتها نسيجًا معطّرًا بالأمل وحبّ العمل ودفء الإنسان وقيمًا رائعة خرجت من كلماتها لتولد انفعالًا أكاديميًّا حقيقيًّا داخل تلك الدّائرة الطّلابيًة. ولشدّة لهفتي، قرّرت أن أخرج في كتابتي عن النصّ المُتّبع أسبوعيًّا وأن أخصّص زاويتي، هذا الأسبوع، لأولئك الذين كنت مرافقًا لهم في مرحلة التّطبيق العملي لموضوع التّاريخ في بيتنا الدّافئ.. المدرسة الإيطاليّة.
لم تكن البداية سهلة.. فقد جاءنا محمّد وغدير ومحسنة من أماكن مختلفة في البلاد، من الجليل والجولان والمثلّث الشمالي، بعد أن قطعوا مسافات زمنيّة وبيئيّة، وحملوا أنماطهم ونهجهم المحلي وتقدّموا إلى السّاحل، وصرخة الأمل على وجوههم تشعّ متفائلة، مبعثرة، وغير معرَّفة أحيانًا، تطلب عبور هذه المرحلة بسلام.
عندما سألتهم عن الصّعوبات التي اعترضت طريقهم في الفترة الأولى من مرحلة مشاهدة حصص التّاريخ التي درستها، لم يتطرّقوا حينها للضباب المتعالي في الجو بسبب إقدامهم على مرحلة مهنيّة جديدة، إنّما أجمعوا على مفاجأتهم من العادات والتّقاليد الحيفاويّة التي لم يلمسوها من ذي قبل. وهنا راحوا يتذكّرون الأمثلة العديدة والمتعدّدة ويقصونها بكلّ ثقة ومرح. كان اصطفاف الطلبة في الصّباح الباكر ولحظات الصّلاة المريميّة والربّانيّة والتضرّع من أجل المستغيثين، شعوبًا وأفرادًا، كل ذلك كان غريبًا وغير مألوف بالنّسبة لإخوتي من المناطق الحبيبة. كما استهجنوا من مناداة الطّالب لمعلّمتة بكلمة “مِس” بدلًا من “معلّمتي”. هذه التّجربة التي مررت بها أنا أيضًا عندما انتقلت كطالب من المدرسة الشّاملة في الرّامة إلى راهبات النّاصرة، المدرسة الأهليّة، حيث صُدمت في الفترة الأولى من بعض الأساليب والعادات والتّسميات التي لم أواجهها في قريتي، إلّا أنّ احتضان المدرسة لي ولزملائي المغتربين، أبناء الهجرة الداخليّة جعلتنا نرسو إلى بر الأمان مدفوعين من الإرادة وملتحفين بالمحبّة التي قدمتها لنا تلك الأهليّة العريقة.
قدموا إليّ والأهداف واضحة ولكن السيرورة غامضة. يريدون أن يصبحوا مدرسين ولكن قلوبهم وعقولهم تعيش جدلًا فكريًّا وشعوريًّا، تارة تنتهي بعلامة سؤال وتارة أخرى بعلامة تعجّب، وعلى الأرجح أنّ الأخيرة كان عددها أكبر بكثير.
طاقاتهم الإيجابيّة ونواياهم الجادة أدخلتني، أنا كمدرّب للطّلاب الجامعيّين الذين يتأهّلون لمهنة تدريس التّاريخ، إلى اللعبة بسرعة. فقد كنت شاهدًا منذ بداية السّنة الدّراسيّة الحالية على تمسّكهم بالمثابرة والتّحضير والالتزام بأوقات المدرسة ونظامها الوقتي والسّلوكي والإصغاء للملاحظات وحتّى العمل بحسب ما هم مُطالبون به. ولكن هناك بعض الظّواهر الخاصة التي بدت خلال هذه المرحلة الشّائقة والتي دفعتني قدمًا للتّعاون مع أولئك الفرسان. تميّزت المجموعة الطلابيّة “بالتّوازن التعدّدي”، فقد كانوا مختلفين بالأنماط الاجتماعيّة وطرق التّفكير ونظرتهم لتطبيق حصّة التّاريخ، ولكن التّوازن بينهم كان ظاهرًا وواضحًا مهنيًّا وإنسانيًّا، هذا كلّه على الرّغم من الرؤى المتعدّدة والمتقاطبة. إضافةً إلى ذلك تميّز أفراد تلك المجموعة الصّغيرة بشغفهم لتطوير الذّات في مرحلة تطبيق دروس التّاريخ في الحقل مع الطلاب. إذا كانت بداية هذه المرحلة قد تميّزت بالتردّد والتّراجع والقلق، فإنّ تطوير أنفسهم معنويًّا ومهنيًّا جعل خطاهم ثابتة ومواقفهم غير قابلة للاستسلام، إنّما يطلبون النّجاح بكل ثمن ودون التّوقيع على أيّ هدنة مسبقة. وقد تمثّل ذلك التقدم عندهم بطرق التّدريس البديلة وإشراك الطلاب في سير الدرس هنا وهناك وإعلان مواقفهم الإنسانيّة من خلال تفاعلهم وانسجامهم مع الطّلاب، إذ وصلت بنا الحالة إلى أنّي تأثّرت بهم وتعلمت منهم بعض المزايا التي بإمكانها أن تخدمني أنا وطلابي في المستقبل.
لا يمكن وصف ما مرّ على مُدرّسي المستقبل دون ذكر مرشدتهم هيام التي رافقتهم في أول دربهم، وذلك عندما كانت خطواتهم الأولى مليئة بالقرّاص والآس. هي التي رافقتهم في مسيرتهم التّصاعديّة خلال السّنة، حيث أثرت تلك القيادية المميّزة على طلابنا الجامعيّين بما لديها من معلومات وملاحظات، والتي من خلالها هدفت إلى تزويد الجهاز التّربوي بمُدرّسين جدد يحملون رسالةً إنسانيّة، تربوية ومهنيّة خالصة وخالية من التردّد والاكتئاب والإحباط وعدم الثقة بالنّفس. وعلى حد اعتباري، مَن أراد أن يكون مُدَرّسًا فإن بوابات الجهاز تُفتح له وتستقبله وتكلّل يمينه بالورد ويساره بالزّنبق، وأمّا مَن أراد أن يُدَرّس التّاريخ بطرق شحيحة بعيدة عن القناعة، فإنّه سوف يعيش طفيليًّا عاريًا من المعرفة وظالمًا لطلّابه وزملائه.
ثلاثاء يمضي وآخر يأتي وهم يقفون أمام الأسبوع الأخير، وما عليّ أن أُذكِّر، في السّطور المتبقّية المتواضعة، بأنّ مُدَرّس التّاريخ مُطالَب بتحويل الموضوع الجاف ليكون شائقًا، مثيرًا ومُرتقيًا إلى أعلى الدّرجات. كذلك علينا أن ندرك بأنّ تطوير النّقد عند الطالب يعتبر شرطًا أساسيًّا، خاصّةً أن ذلك يساهم في خلق جيلٍ لا يقبل بأن يُسلِّم ذاته للمطبوعات المختلفة ولا حتّى المتضاربة أحيانًا. وهنا لا بدّ من ذكر د. آرييه قيزل الذي يتولّى شؤون قسم التّربية في جامعة حيفا، والذي أصدر قبل عدّة سنوات كتابًا تحت عنوان “التّاريخ المُستعبَد”، وفيه يزعم بأنّ منهاج تدريس التّاريخ يعاني من اختيار واختزال عناوين مختلفة، من الواجب البتّ بها مُجَدّدًا. فإنّ استخدام الطلبة الجامعيّين لمثل هذه المواقف الإنسانيّة والمهنيّة المُشَرّفة ولخدمة الحقل يساهم في خلق إصلاح تُوَقِّع عليه أسماء جديدة مثل محسنة، غدير، محمد، وغيرهم من أسماء تطالب وتسعى من أجل التّغيير.
unnamed (12)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *