ذكرى…..

مراسل حيفا نت | 23/05/2017

د. منعم حدّاد
أفاق الفتي من نومه في ذلك الصباح مذعوراً، إذ أيقظته أنغام حزينة تنطلق من نواقيس الكنيسة القديمة، تنعي أحد أبناء الطائفة.
توجّه الفتى إلى حيث تجمع الناس، فوجد الكلّ قد سبقوه إلى هناك!
هو لا يذكر موتاً قبل هذا الموت…ولم يدرك بعد ما هو الموت…لكنّه سمع الناس يقولون إن الرجل قد قُتل…
قُتل؟ قال الفتى في نفسه، ها “أتقاتل” أنا ولِداتي ورفاقي يومياً تقريباً، ولكن لا أحد منّا يموت… فقتالنا شجار لا يميت… وأقرب ما يكون من المداعبة “الثقيلة”!
فما الخطب إذن؟ وكيف مات الرجل؟
وراح الناس يلتئمون في بيت العزاء، وبيت العزاء لم يكن بيت السابق انتقاله، بل بيتاً واسعاً رحباً يتّسع لكلّ أهل البلد، وللأغراب والضيوف الذين جاؤوا من حيث لم يكن يدري لمشاركة أهل الفقيد عزاءهم!
وكانت وفود المعزين القادمة زرافات ووحداناً تصل المكان، وتصافح أصحاب العزاء من أقارب الفقيد، ومن ثمّ تأخذ أمكنتها وتجلس حيث تُدعى، أو يبادر أحد أبناء المكان إلى دعوتها – خاصة إذا كانت من خارج المكان – إلى منزله لاستضافتها إلى أن يحين موعد تشييع الجثمان.
ومرّت الساعات بطيئة متثاقلة، وأحسّ الفتى وكأنّ الدقيقة الواحدة تطول لتبلغ شهراً أو عاماً كاملاً.
والوقت مهما طال لا بدّ من أن ينتهي، ولو طال حتى أطول من حياة آدم ونوح عليهما السلام.
وحان وقت تشييع الجثمان، وسار الكهنة والمسنّون والوجهاء في مقدّمة الموكب الجنائزي المهيب، وتوجّه الجميع إلى الكنيسة، وأجريت الطقوس الدينية.
وكانت الفتى يتابع بعينيه كلّ الحركات والسكنات، لكنه كان يشعر أنه لا ينتمي إلى هذا المكان أبداً، فهو بعيد عنه جدّاً وما له ولما يجري في هذا المكان؟
نعم، هو بحكم “سنّه” أصبح من واجبه مشاركة الآخرين أفراحهم وأتراحهم، لكنه كان يشعر أنّه كنقطة زيت متماسكة عائمة في كوب من الماء، هو في داخل الكوب لكنّه في داخل عالمه هو، وعالمه هذا الذي يعيش فيه ليس هنا.
وانتهت المراسيم والطقوس الدينية وكانت كاملة مكملة، وترحم أصحاب الحلّ والربط على الراحل الكبير، وأبّنه أحدهم، وقال ما قال فيه!
ولاحظ الفتى أنّ كلّ ما قيل لم يكون سوى مديح وإطراء، حتى لكأن الراحل قدّيس أو ملاك سماويّ قد هبط من السماء على الأرض، وأنه طاهر نقيّ صدّيق منزّه عن كلّ الخطايا والآثام، رغم علم الفتى أن الراحل كان إنساناً ككلّ الناس، ومن الجائز، من الجائز أن يكون قد أخطأ مرّة، وارتكب خطيئة “اختيارية أو كرهية أو قسرية”، فالإنسان قد يخطئ أحياناً حتى دون أن يدري أنّه أخطأ!
وتشابكت أيدي الرجال، وحملوا النعش الثاوي في داخله الراحل ورفعوه على أكتافهم، وراحوا “يؤاجرون” في حمله لتشييعه إلى مثواه الأخير.
وكانت الطريق صعوداً في سفح الجبل القريب، فتناوب الشباب والرجال في “المؤاجرة” في حمل النعش، إلى أن بلغوا المثوى حيث سيوارونه التراب.
وصلوا على الراحل صلاة أخيرة، لترافقه إلى رحلة الأبدية، فلربّما خفّفت هذه الصلاة شيئاً من العقاب الذين ينتظره في تلك الدينونة، لو كان خاطئاً، ولتزيد ثوابه إن لم يكن قد ارتكب من الخطايا ما يستوجب العقاب، ومن أعمال البرّ والإحسان ما ينيله الثواب.
وأنهى الجميع الطقوس الأخيرة والمراسيم النهائية، وأنزلوا النعش في الحفرة المفتوحة، وسوّوه كما يجب، ومن ثمّ نصبوا اللحود فوقه، تاركين بعض الفراغ بينهما، لكي “يتنفّس”، وواروه الراحل التراب، وانتهى كلّ شيء تقريباً…
وقبل أن يصطفّ المشيعون وينتظموا لتقديم التعازي والمؤاساة للمرّة الأخيرة، سُمع في الجوّ فجأة ودون سابق إنذار أزيز مزعج متواصل وعلى وتيرة واحدة…
نظر الناس إلى الأعالي باحثين عن مصدر الأزيز الغريب…وسبق ذوو العيون الحادة البصر سواهم، فاكتشفوا بـ”رادارت” عيونهم سرباً من الطائرات يحوم ويحلّق في الأفق البعيد!
فصاح أحدهم:
أيّها القوم! أيّها القوم! بصفتي جنديّاً سابقاً في جيوش الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس أحذّركم من البقاء هنا…تفرّقوا فوراً ولا تتجمعوا…
ولماذا؟ قال له كبير وجهاء البلد!
لأن هذه طائرات حربية ستأتي لتقصفنا فوراً…
لا، لن تصلنا هذه الطائرات…
وفجأة، وخلال وقت خُيّل للجميع أنّه لا يتجاوز الثواني القليلة كانت الطائرات تمرّ فوق المنحدر الذي يقف عليه الرجال، فسارعوا إلى الاختباء في ظلّ شجرات قريبة متشابكة الأغصان ملتفّة الأوراق وارفة الظلال تحجب الرؤية عن الطائرات…
وبعد ثوان حسبها الجميع ساعات طويلة كانت قد اختفت الطائرات ومعها أزيزها…
تنفّس الرجال الصعداء وخرجوا من مخابئهم، وهم يشكرون الله ويسبّحون الربّ، مهنّئين بعضهم بعضاً بالنجاة من قصف افتراضي لطائرات تحمل القتل والدمار والخراب…
وتمالك الفتى رباطة جأشه وسأل كبير القوم:
ألا تقول لي أيها العمّ الوقور كيف رحل هذا الراحل الكريم؟
ألم تعرف بعد يا بنيّ؟ ألم تسمع أن الطائرات التي مرّت فوق حقول البلد يوم أمس رأته كما يبدو وهو يرعى قطيعه فحسبته قائداً والقطيع جنوداً فألقت عليهم وابلاً من القنابل وقتلته؟unnamed-4-8-221x300

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *