انتصار الإرادة.. غسيل دماغ نازي

مراسل حيفا نت | 21/05/2017

انتصار الإرادة.. غسيل دماغ نازي
طوني باسيلا
كانت الدعاية عاملًا أساسيًّا ساهم في صعود النازية إلى الحكم، وقد اعتمد عليه الألمان حينها من أجل تجنيد الملايين وترسيخ أفكار الحزب وتطوير مبادئ الأيديولوجيّة، مثل الاستعلاء العنصري وسلّم الأجناس وفكرة الحرب في سبيل تحقيق مخطّطات الرايخ وغيرها.
في السنة الثانية لوجود النازيّين في الحكم (1934) دعم هتلر فكرة المخرجة السينمائيّة “ليني ريفنستال” من أجل صنع فيلم وثائقي تحت عنوان “انتصار الإرادة”، والذي يُعبّر عن هويّة الحكم الجديد الذي استهدف القضاء على الديمقراطيّة وبناء مجتمع جديد يقوم على العنصرية والأسس التوتاليتارية.
اهتم أدولف هتلر، أحد منتجي الفيلم، بإبراز قوة النظام النازي، من خلال توثيق المؤتمر الذي عقده الحزب في مدينة نيرنبرغ، وذلك من خلال عرض المسيرة التقليدية التي مشّط الجنود من خلالها الطرقات بأحذيتهم الثقيلة والتي تهدف إلى إثبات الوجود وإلى تعظيم الزعيم، وكذلك من خلال إظهار خطابات القيادة النازية التي قصدت تفريغ المشاعر الشعبية المتوترة، وعلى رأسهم خطاب هتلر الذي عرض أمام الجماهير الألمانية معتقداته وأحلامه وحتى الوعود الكاذبة التي وجهها للغني على حساب الفقير وللمحافظين ضد الأحرار، والعكس صحيح في كلا الحالتين.
إذا ابتعدنا قليلاً عن المضامين وتركزنا في الإخراج السينمائي بشكل محض نستنتج أن المخرجة تمتّعت بقدرات سينمائيّة هائلة، واستغلّت تلك القدرات لخدمة الدعاية النازيّة، فقد استخدمت التقنيّات وتحريك العدسة واختيار الزوايا المختلفة للتصوير بما يتوافق مع رفع شأن القيادة النازية ، تلك القيادة التي اتّخذت لها مواقع مختلفة في الهرم التوتاليتاري الذي درّجَ القياديين النازيّين وأعطاهم كامل الصّلاحيّات على من هم تحت وواجبات اتّجاه الذين كانوا أعلى منهم. كان ذلك منذ عرض المشهد الأوّل للفيلم، حيث تمّ تصوير طائرة هتلر القادمة إلى المؤتمر النازي في نيرنبرغ. اختارت المخرجة تصوير المشهد من طائرة أخرى لكي تبرز عظمة الزعيم الذي يخترق الغيوم ويحلق فوق الشّعب وفي النهاية ينزل نحوهم “متواضعًا” لهدف إهدائهم إلى “طرق الحقّ والصّواب وتحريرهم من العبودية”. يعتبر تصوير هتلر من الجو قمةً في الإبداع والتّحديث على مستوى العمل السينمائي ولا سيما على مستوى الدعاية السياسية. فإن اختيار تلك الحالة جاءت لتوثر على عقول ومشاعر الفئات الشعبية المختلفة وتجعلهم ينجرفون وراء زعيمهم بدون تردد وبدون قيدٍ أو شرط، ولا بد من ذكر ملاحظة هامة بشأن هذه النقطة، وهي أن هناك شريحة من الناس لم تخضع بسهولة لهتلر ولم تستسلم للفكر النازي منذ بداية الطريق، وإن كانت الدكتاتوريّة الوحشيّة قد ألزمتهم على الخضوع فإنّ الدعاية النازية والمؤامرات التلفزيونية والسينمائية غيرها من وسائل قد جمّدت الآراء السّلبية المسبقة وولّدت، عند قسم كبير منهم، قناعة بأن هتلر هو العنوان للخروج من الأزمات الداخليّة والخارجية ولتحقيق النصر فيما بعد. أساليب دعائية كثيرة تم استخدامها في “انتصار الإرادة”، على سبيل المثال، لم تتنازل المخرجة عن تصوير هتلر من الزوايا المنخفضة حتى يظهر للمُشاهد وكأنه مُرسل من القوى الخارقة، وأما الجماهير فقد تم تصويرها من المناطق المرتفعة كي تظهر وكأنها ساقطة، لا تملك القدرة، فما هي إلّا أرقام تكمل بعضها البعض وتنتظر الرحمة من ذلك النمساوي الذي عاش شبابه بائسًا وقابلاً للإرهاق والاستسلام.
عبّرت المخرجة الموالية للنازيّة والفهرر عن انتمائها للأيديولوجية وعن رغبتها في تطبيق مبدأ تقديس القائد، من خلال إبعاد وتقريب الكاميرا. عند تصوير هتلر أثناء المسيرة أو عند خطابه في المؤتمر تم تقريب الكاميرا بهدف التركيز على شخصيته وخلق الاهتمام عند الجماهير ولفت نظر المُشاهدين بأن القائد النازي ما هو إلا تلك الشخصية العظمى التي بفضلها ستنجو ألمانيا من عثرات الزمان وسيرتفع شأنها حتى تستعيد ذكريات أمجاد الجرمان بواسطة الحرب ضد الأعداء. أمرت المخرجة بتقريب الكاميرا أيضًا من العلم النازي الذي يحمل إشارة الصّليب المعقوف، كل ذلك من أجل ترسيخ الرموز النازية في نفوس الألمان.
برزت في الفيلم بعض الشّخصيّات المقربة من هتلر وعلى رأسهم جوزيف جوبلز، وزير الدعاية والذي برع في تسويق صديقه، إما بواسطة استعباد الإعلام لصالح النظام أو بواسطة الحرب النفسية التي استخدمها ضد الأعداء في الداخل والخارج. وقد اشتهر غوبلز من خلال جملته المشهورة “اكذب حتى يصدقك الناس”. بالإضافة إلى وزير الدعاية الذي رافق هتلر حتى انتحاره في 30 نيسان 1945، وأقدم هو الآخر مع أفراد عائلته على الانتحار في اليوم التالي، فقد ظهرت شخصيات أخرى مثل ألفرد روزنبرغ، يوليوس شترايخر وهملر وغيرهم.
بعد عرض القيادة النازية انتقل الفيلم إلى الشعب الذي اهتم بالعمل الجماعي من أجل خدمة الرايخ. لا بد من التذكير أن هتلر ألغى عيد “يوم العمال” الذي يعود مصدره للاشتراكية العالمية، وصمم على تسميته “يوم العمل الألماني” وإعطائه صبغة قومية، عرقية ونازية. أما المخرجة التي درست متطلبات النظام فقد شددت على إبراز دور المواطنين في سبيل تعمير ألمانيا. هذه المَشاهد أثّرت كثيرًا على وجهات النّظر الشّعبية، ولا سيما المعارضة لهتلر والنازية. إلى جانب العمل الألماني برز دور الشبيبة الهتلرية التي حثّها هتلر على اللجوء إلى الحرب، وكذلك دور الفيرماخت المُكوَّن من الجنود الذين خضعوا للنظرية وأعلنوا الولاء للفهرر واشتروا موتهم دون أن يضمنوا شهادات الدفن.
في أحد مشاهد الفيلم يقوم الفهرر بمسامحة رجال الـ إس. اي. الذين حاولوا، في السابق إحداث انقلاب ضد النظام. تميز ذلك المشهد بروح الدعاية السياسية والتي تُذكِّر بألاعيب غوبلز وأعوانه، خاصةً أن هتلر والنازيين لم يؤمنوا بالقيم الإنسانية. فقد جاء المشهد ليخلق بلبلة عند المواطنين وليقنع الضّالّين منهم بأن النازية هي العنوان للتسامح والتكتل ولحل كافة الأزمات.
حاز فيلم “انتصار الإرادة” على جوائز عديدة في ألمانيا وخارجها، وذلك بفضل الإخراج المميّز الذي قدمته ريفنستال حيث أمسى الفيلم مصدرًا، فيما بعد، لتعلُّم التقنيات وبيع الأكاذيب والمؤامرات للناس من خلال الأفلام الوثائقية.
unnamed (12)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *