حكاية عشق – فتحي فوراني

مراسل حيفا نت | 25/03/2017

حكاية عشق – فتحي فوراني
هؤلاء علّموني
* الأستاذ نصري النّخلة (أبو فريد) * موكب الطّرابيش.. وأولاد اللّئام.. وتاء التّأنيث! *

** موكب الطّرابيش
كان الأستاذ نصري النّخلة.. نخلة باسقة قطوفها دانية!
واحد من المعلّمين الذين أحبّهم الطلاب.. وطالما تلهّفوا إلى الإبحار في سفينة اللّغة العربيّة وقبطانها الأستاذ نصري النّخلة (أبو فريد)!
يعتمر أبو فريد الطّربوش الأحمر.. على عادة هذا الجيل من الشّخصيّات والمربّين الذين تعمّدوا في عصر الانتداب. يسير في موكب الطّرابيش الشاميّة يوسف الفاهوم (أبو عاطف – رئيس البلديّة) نصري النّخلة وحبيب غطّاس ونصر رمضان ويوسف خليل جدعون (أبو جميل) وماجد الفاهوم (أبو نزيه) وأديب جرجورة وعزيز جرجورة.. وأديب حلّاق والياس حلّاق (أبو مالك) وتوفيق سيباني وأمين السّالم (أبو عادل) وإبراهيم سعد جرايسي (أبو أكرم – جدّ الصّديق فكتور جميل ارشيد) وإبراهيم الشّيخ (والد الصّديق وليد فاهوم) وفوزي فوراني الصّفدي (أبو فتحي).. ويواصل الطّربوش مسيرته إلى رؤوس الأجيال الانتدابيّة وصولًا إلى رأس الهرم.. أمين سليم جرجورة!
أمّا إذا تعبت الطّرابيش وساءت حالتها الصّحّية وتشوّهت ملامحها الجماليّة.. فالطّريق سالك إلى “طبيب الطّرابيش”.. يونان قمّوع! إنّه “كوّى” الطّرابيش الأوحد في المدينة.. ومنقذها من حالتها الصّحّية المتدهورة..
يُنقَل الطّربوش إلى غرفة العمليّات.. إلى ورشة العمّ يونان.. فيشلع العمّ يونان أذنه (أذن الطّربوش).. يكويه ويؤدّبه ويرتّبه ويصلح من أمره.. ثمّ تعود قافلة الطّرابيش إلى “مواطنها”.. إلى الرّؤوس النّصراويّة.. متباهية بتاريخها ومستعيدة “أمجادها”.. وعصورها الزّاهرة!

** نصري النّخلة.. عاشقًا لتاء التّأنيث!
يدخل أبو فريد غرفة الصّف مبتسمًا.. يشعّ تفاؤلًا ومحبّة أبويّة.. ويقف أمامنا مفتتحًا درسه بصباح رباح.. ويروح يغوص في بحار اللّغة العربيّة!
ولا تنفكّ أصابع يده – إبهامًا وسبابةً ووسطى – تداعب أنفه وتغازله برشاقة فنيّة احترافيّة!
لقد أحبّه الطّلاب.. وأحبّوا إثارته واستفزازه.. ووجدوا في ذلك متعة لا تعدلها متعة!
ورغم هذا الاستفزاز.. فقد أحبّ طلّابه.. وتسامح معهم على “ولدناتهم”!
***

يتمتّع أبو فريد بخطّ عربي جميل.. يدل على موهبة أصيلة وذوق فنّي رفيع!
يكتب الجملة العربيّة على اللوح بحركات دراميّة يدًا ورأسًا وخصرًا وجسدًا.. ويكتب الكلمة المختومة بتاء التّأنيث المربوطة المتّصلة بالاسم.. فيتفنّن في كتابتها ونحتها وهندستها.. حتّى يكتمل جمالها وتبدو بأبهى مظهرها!
ويرسخ في أذهاننا – كطلّاب صغار – صورة تاء التّأنيث المربوطة المتّصلة بآخر الكلمة.. كأنّها رأس حصان.. مع ذُنيب في آخرها.. ويرفع الطّبشورة عن الكلمة بحركة مسرحيّة سريعة.. ثمّ يبتعد عن اللوح.. وينظر إليها متأمّلًا ومعجبًا!
– أحسنت يا أبا فريد!
تصفيق حاد!
وتطغى الهيصة.. على أجواء الحصّة!
لقد كان أبو فريد عاشقًا متيّمًا بالتّاء المربوطة.. فما إن تلوح في النّص الأدبي كلمة تنتهي بالتّاء المربوطة وتحتلّ مكانها على حديقة اللوح الأسود.. حتّى يهرع إليها أبو فريد.. فيحتضنها معانقًا ويشبعها عناقًا وضمًّا ولثمًا!
ثمّ ينظر في عيون الطّلاب.. ويتوسّل الإعجاب والتّصفيق الحاد من جمهور النظارة!
يضحك الطّلاب.. من المشهد الذي لا يخلو من مسحة كوميديّة!
وتطغى قهقهات بعض “المناحيس” على جوّ الحصّة!
ويرتفع منسوب الهيصة لتبلغ أشدّها!

** تضحكون؟!.. يا لئام؟
يتوقّف الأستاذ عن الكتابة.. يلتفت إلى الطّلاب.. ويهزّ رأسه هزّة فيها عتاب مغلّف بالمحبّة.. وعلى شفتيه ابتسامة ظريفة:
– تضحكون.. يا لئام؟!
يقولها بمحبّة.. ثمّ يواصل المسيرة..
– أنا نصري النّخلة أبو فريد..
علّمتُ في مدارس النّاصرة.. أكثر من سبع سنوات!
وكنتُ مديرًا في مدارس عبلين والرّينة.. اثنتي عشرة سنة!
كنتُ مديرًا في لوبية أكثر من أربع عشرة سنة..
ويروح أبو فريد يسرد تاريخ مسيرته في التّربية والتّعليم.. منذ طفولتها.. وحتّى هذه اللّحظة!
ثمّ يواصل مسيرة العتاب والغضب الأبويّ الجميل:
– لقد علّمت أباك.. وعلّمت أمّك.. وتسخر من نصري النّخلة؟!
ثمّ ينهي البهدلة باللّازمة المحبّبة إلى قلوبنا: “اِضحكوا.. يا لئام!”.
فيغشغش الطّلاب ضحكًا.. وتغرورق العيون دمعًا.. وتكون البهدلة على قلوبنا أحلى من العسل!
إنّها خارجة من قلب طاهر عامر بالمحبّة!
وبعد دقائق تهدأ العاصفة.. ويستتبّ الأمن!
ثمّ يواصل النّهر ما انقطع من مسيرته.. حتّى نلتقي بتاء مربوطة أخرى.. وتكون مسرحيّة كوميديّة أخرى.. وتكون “زفّة” أخرى”!
وتكون اللّازمة.. ضحك.. وبهدلة.. ولوبية.. وأولاد اللّئام.. وإعادة لفيلم “السّيرة الذاتيّة”!
***

لقد أحببنا أبا فريد!
وكنّا نستمتع بلطائف البهدلات الأدبيّة الممتعة التي يمطرها علينا الرّجل!

** أليس هنالك حرف “للتّذكير”؟!
في الشّمال الشرقي من غرفة الصّف.. وعلى رأس الزّاوية.. يجلس واحد من “العفاريت” المشاغبين المبدعين.. الذين يتمتّعون بروح فكاهيّة.. لا نظير لها!
“العفريت” مستغرق في التّفكير!
ويشطح الخيال الصّبياني في منطق اللّامعقول فيطرح السّؤال: أستاذ!.. أليس للمذكّر حرف “للتّذكير” أسوةً بتاء التّأنيث!؟
سؤال وجيه!!
ويضحك الطّلاب من قراقيح القلب!
ويظلّ السّؤال سؤالًا بلا جواب!
ويحتار سيبويه وصحبه من النّحاة وعلماء اللّغة في الإجابة على هذا السّؤال الطّريف!
***

وعن ثنائيّة التّذكير والتّأنيث التي أشغلت بال البعض من عباد الله.. يقول المتنبّي قبل أكثر من ألف عام:
وما التّأنيث لاسم الشّمس عيبٌ
ولا التّذكير فخر للهلال
***

** جَلَسَةْ أم جَلَسَتْ؟! مسألة فيها نظر!
وما دام الشّيء بالشّيء يُذكر، نستحضر ما حدث لمعلّم اللّغة العربيّة مع تاء التّأنيث. وهي حكاية واقعيّة رواها لي معلّم للّغة العربيّة في إحدى دور المعلّمين.. فقد ذاقها على جلده.. وكان “شاهدًا على العصر”.. وشاهد بأم عينه كل حاجة..
سألت إحداهن المعلّم: كيف نكتب “مؤنّث” الفعل “جلس”؟ جَلَسَةْ أم جَلَسَتْ؟! بتاء التّأنيث المربوطة أم تاء التّأنيث المفتوحة؟
يبتسم الأستاذ ابتسامة لا تخلو من ذكاء ودهاء.. وكان حاضر البديهة.. فيجيب: يتوقّف على طريقة جلوسها، فإذا جلست “السّاق على السّاق” كانت تاء التّأنيث مربوطة.. وإذا كانت طريقة الجلوس “غير ذلك”.. فتاء التّأنيث “مفتوحة”!
***

رحمك الله يا أبا فريد.. وأسكنك فسيح جنّاته!
كم نحنّ إلى تلك الأيّام.. وإلى تاء التّأنيث المربوطة والمفتوحة.. وإلى البهدلات الإبداعيّة التي أنعمتها علينا.. والتي أمتعتنا بخفّة ظلّها!
لقد أحببناك يا أبا فريد!
سقى الله أيّامك.. يا أيّتها النّخلة الطيّبة!
***

** لهذه الكوكبة من المربّين.. نحني رؤوسنا إجلالًا!
وكيف أذكر الأستاذ نصري النّخلة دون أن أتذكّر كوكبة المربّين الذين نشأنا في ظلّ سنديانتهم في المرحلة الابتدائيّة المتقدّمة ومن ثَم في المرحلة الثّانويّة؟
كيف أنساكم أيّها الأحبّة؟!
يخرج عبد الله من حقيبة الذّاكرة شريطًا ذهبيًّا تزيّنه كوكبة المربّين الذين تركوا بصماتهم عليه وعلى أجيال متعاقبة من الطّلاب.. فتتألّق في الشّريط أسماء الأساتذة الّذين يشكّلون علامات بارزة في قيادة المسيرة التّربويّة في المرحلتين الابتدائيّة والثّانويّة:
سعيد بشناق سليم توفيق الأحمد (أبو هشام) وماجد الفاهوم (أبو نزيه) وشوقي يوسف حبيب واسعيد خميس وحبيب نحّاس وخالد علي الزعبي (أبو صائب) وسعود الأسدي وإميل نصير ووليد الصّالح وهاني راجي صبّاغ وصدقي عبّاس والياس توفيق دانيال وجريس الحاج وإميل الحاج وسلطي سعد ومنصور صالح وسليم الواوي أبو أحمد (أبو باسم) وأمين معمّر والياس معمّر ومئير حايا وموشي برنبلوم وفاروق جابر خوري وجمال سكران وإبراهيم شباط (أبو فريد) وحسني حبيب مرجيّة (أبو زاهي) وحبيب حزّان (أبو الأديب) وحنا إبراهيم موسى وأسماء أخرى غابت عن الذّاكرة..
لهؤلاء المربّين الكبار نحن مدينون بالكثير.. وأسماؤهم عصيّة على النّسيان.. ومحفورة عميقًا على جدران الذّاكرة.
رحم الله مَن رحلوا.. وأمدّ الله في أعمار مَن بقوا!
إنّهم كوكبة مضيئة من الذين تركوا بصماتهم على المسيرة التّعليميّة والتربويّة..
من معاطفهم تخرّجت أجيال جاءت من جميع أنحاء الوطن.. نساء ماجدات ورجال رجال.. وستظلّ بصمات هؤلاء الأساتذة الطّيّبين تشعّ وتضيء ذاكرة الأجيال..
***

** نصري النّخلة (أبو فريد) في سطور
– وُلد نصري النّخلة في 13 شباط سنة 1897.
– تعلّم في مدرسة القدّيسة حنة في القدس وتخرج منها سنة 1914.
– علّم في مدرسة الرّوم الكاثوليك في النّاصرة 1914 – 1916.
– علّم في مدرسة تيراسانطة في النّاصرة 1917-1920.
– علّم في المدرسة الحكوميّة (الانتداب البريطاني) في النّاصرة 1921 – 1925.
– عُيّن مديرًا في المدرسة الحكوميّة في عبلين 1925- 1927.
– عُيّن مديرًا في المدرسة الحكوميّة في الرّينة 1927 – 1932.
– عُيّن مديرًا في المدرسة الحكوميّة في لوبية 1932 – 1946.
– عُيّن مديرًا في المدرسة الحكوميّة في الرّينة 1946-1951.
– علّم في المدرسة الحكوميّة في النّاصرة 1951-1960.
– رحل عن الدّنيا في 2 آب سنة 1981.
***

* إشارة: قبل رحيله المأساوي كان الصّديق الصّدوق الدكتور سليم النخلة المعيّن الذي نهلتُ منه المادّة عن والده نصري النّخلة.. رحم الله الرّجُلين الطّبيب والمعلّم.. وجعل مثواهما الجنّة)
(من كتاب “حكاية عشق”)
نصري نخلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *