دَيرُ الحائط والشّاعر

مراسل حيفا نت | 24/03/2017

طارق عسراوي

هانئة قرية دير استيا، تفتح ساعديها في عناق زوّارها تهنّئهم بالسّلامة من مخالب مستوطنات شرهة تقضم التّلال المحيطة بها، ليس فقط التّلال، وإنّما كلّ ما في الزّيتون من خضرة ووعد بالقطاف الوفير.
في القرية بيوت شواهد على أزمنة سبقت نكبة البلاد، يصرّ أهل القرية على إبقاء أبوابها مشرّعةً للحكايات النّضرة والحمام المطمئنّ لقوته على أسطح البيوت القديمة.
أوقفنا المركبة في ساحةِ الوفاء، ساحة الشّهداء، حيث مَرُّوا شهداء القرية ذات يوم بكامل قلوبهم، ورصاصهم وأحلامهم.. رحلوا ذات نهار غائم لكنَّ أنفاسهم ظلّت على جدران السّاحة الواسعة تلحفُ مثل دالية تُعرّش سقف الحكاية والمكان، وفي ظلّها أقيمت الأعراسُ ورجّت وطأة الأقدام في صفّ الدّبكة ليل الذّئاب على سفوح التّلال.
سرنا في الأزقّة، حيثُ أقيمَ عرسٌ بكامل مفرداته الفلسطينيّة لزوجين أتيا من مخيّم اليرموك وسارا في زفّة الزّغاريد والحناء إلى قفير الحياة قبل سنين.
في دير استيا، بيتُ شاعرٍ يسكنهُ الحَمامُ، نبتت القصائِدُ على نوافذه الشّرقيّة خضراء بريّة، مثل نبتة المرّار البريّة يفور صوت عبد اللطيف عقل من بين حجارة السّلاسل، ففي تُربة المفردات نبتت أشجار اللّوز والأعشابُ، وإلى عين المجاز ساقت الماشيةُ الرّعاةَ لترتوي.
كأنّه يقف فوق تلك الحجارة المردومة يقرأ من رسالته إلى صديقه:
“أنا أبكي على أيّام قريتنا
التي رحلت وأبتهلُ
أزقتُها المقوسةُ العقود
وصبحها الخَضل ُ
ومغربها الذي برجوع قطعان الرّعاة إليه يبتهلُ
وفوق سقوفها البيضاء
نفّض ريشَهُ الحَجَلُ
وكيف يجيئوها المطرُ
فتورق في شفاه الحقل
أغنيةٌ وتزدهرُ
فتجتمع العذارى والزّهورُ،
الطيرُ،
والأبقارُ،
والأغنامُ
في عرس المساء بها
وتحتفلُ..”
وهناكَ ولدت هذه الكلمات من حجر يروِّضُ شعاع الضّوء البريّ ويسرجه، ويترُكُ للشّرفات من صهيلِ النّهار ضحكة الشّمس الخجولة.
وهناك مقعدٌ في فيء ذاكرة يعرّش على جدرانها نَفَسُ الغياب، وتتدلّى منه قطوف الحنين في ليلٍ ينيره القمرُ.. فجلستُ أنتظرُ.
هناك.. في تلك الحوانيت المغلقة ثمّة أنفاس نضرة لم تغادر الزّقاق.. وهويّة نبست بها الجدّات للأحفاد وهرّبنها عبر الحدود في زنانيرهنّ الملوّنة حتى لا تستفرد العتمة بالذاكرة فتحيلها سوداء قاتمة.
وهناك فوق السّطوح المتلاصقة مدرج طائرة ورقيّة تجمحُ رغم قُصر الخيط إلى سماء كفر قاسم القريبة.
ومن هناك عدتُ مكتملًا وناقصًا.. ظلّ لي قلبٌ يلهث نبضه في الأزقّة وبين البيوت، وقد قطفت عن الجدران أبجديّة الحكاية.
وقيل في الحكاية إنّ كلمة (استيا) مأخوذة من كلمة (استا) السّريانيّة، والتي تعني الحائط، ولذا بدت القرية مثل جدار يصدّ الغزاة كلّما تقمّصوا العتمة كي يبتلعوا “وادي قانا” أو يشربوا مياهه.
13226662_10153985548380081_4999705674791132695_n

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *