فَقر دم (إلى د. خليل سليمان)

مراسل حيفا نت | 10/03/2017

حكاية العدد
فَقر دم
(إلى د. خليل سليمان)
طارق عسراوي

كُنْتُ في العشر سنوات الأولى عندما قال لي الطبيب، صديق العائلة، بأنني مصاب بـ “فقر الدّم” وحثّني على الأكل جيّدًا عندما أخبرته في منزلنا بأنّني لا أريد النوم بسبب ألم في يدي، لم أفهم حينها لماذا انفجر الدكتور خليل سليمان ضاحكًا حين ضمّني إليه، ولماذا تعالت ضحكات عائلتي قبل أن يرسلني والدي للسّرير مجدّدًا، هكذا علق الدكتور خليل سليمان، صديقنا جميعًا، في ذاكرتي، وصرت على امتداد السنوات اللاحقة انفجر ضحكًا بكل طاقة الأطفال حين اسمعه يقول لي أو لأي من أخوتي “فقر دم”؛ كان يعلم جيّدًا أنّنا لا نعاني أيّة أمراض وأن شكوى الألم كانت حجتنا الطفولّية للاعتراض على أوامر النوم المبكّرة وهو الذي كان مختزنًا بالحلوى واللعب وربما كان يُغرقنا بعاطفة الولد الذي لم يرَه، كبرنا و كَبر مزاحه واحترامه فينا.
لم يكن الرابع من آذار يومًا عاديًّا وكان العام 2002 عامًا مشحونًا بالألم في فلسطين، وكانت جنين تسطّر أنشودة بطولتها وملحمة الوجود وتزفّ شهداءها عريسًا عريسًا، كُنْتُ في عمان عندما تلقيت خبر استشهاد الدكتور خليل سليمان، وكان كعادته يرتدي زيّه الملائكي الأبيض الموشوم بإشارة الهلال الأحمر الذي اختلطت عليه حمرة الدّم وحمرة وجنتيه النضرتين.
قذيفة استهدفت سيارة الإسعاف الساعية لإنقاذ الجرحى أودت بحياة الدكتور خليل في مخيم جنين، وهكذا فاض دم الشهيد وافرًا، هكذا كان دم الدكتور خليل نهرًا متدفقًا لا ينضب ويزداد غزارة في عروقي كلّما شاهدت سيارة إسعاف أو اشتكى أيّ أبنائي من ألم في يديه كي لا يخلد إلى سريره.
اليوم و بعد ثلاثة عشر عامًا من استشهاده ربما أدركت أنّه كان يخشى على أجسادنا أن تكون فقيرةً بما فيها من دماء فلا تتفجّر كبراعم القرنفل إن مسّتها قذيفة حارقة، وأنّ “فقر الدّم” كان هاجسه الخفي فأبى إلّا أن تغطّي دماؤه وجه الحرية السمراء وتروي ما استطاعت من سنابل مرج بني عامر.
ستبقى ضحكتك تصهل فينا، وستكبُر في أبنائنا ما كبروا، فلك فينا ذاكرةٌ عمرتّها يداك في المساحة الشاسعة الممتدة من قطعة الحلوى حتى الشّهادة، ولذكراك نعلّق أناشيدنا وقمحنا ونقرأ على روحك الطاهرة آيات الخلود.
(جنين)
13226662_10153985548380081_4999705674791132695_n

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *