رأس السنة الميلاديّة تجسيدٌ لميلاد الإنسان الجديد

مراسل حيفا نت | 31/12/2016

بمناسبة حلول يوم العيد المنير الزاخر بالفرح، عيد ميلاد ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح بالجسد، أحييكم يا أعزائي من صميم قلبي. في هذه الليلة المضيئة نكرر معا في أدعيتنا مديح الملائكة الذي يبشر “بفرحٍ عظيمٍ يكون لجميع الشعب: أنّه وُلِدَ لكم اليوم في مدينة داود مُخَلِّصٌ” (لوقا 2: 10-11).
إنّ البشرية التي أشاحت بوجهها عن الله بسقوطها في الخطيئة، تستعيد فرصة الاتحاد بخالقها وراعيها. إنّ دخول ابن الله إلى العالم هو تواضعه الطوعي إلى درجة استعداده لقبول العذاب والإهانة “الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ” (فيلبّي 2: 8). إنّ الله يُولد بالجسد لكي يظهر حبه للبشر ويساعد كل من يرغب في سماع ندائه على اكتساب كمال الوجود.
لهذا السبب بالذات يعطينا هذا العيد أملاً حتميًّا في مساعدةٍ تأتينا من فوق في أكثر ظروف حياتنا تعقيدًا. إنّ الله الذي لم يترك مخلوقه وفتح أمامه طريق الحياة الأبدية تجلَّى لنا في المسيح الطفل، هذا الطفل الضعيف المحتاج إلى العناية والرعاية.
علينا جميعًا أن نحفظ في قلوبنا هذه الصورة المستقاة من الكتاب المقدس. ونحن عندما نتذكر الطفل الإلهي مضطجعًا في مذود، فإنّنا نكتسب إيمانًا صلبًا ورجاءً لا يتزعزع في عناية الله التي تقود كلّ إنسان إلى الخير. وحتى إذا وجدنا أنّه لم يبق لنا في حياتنا سندًا وبدا كلّ شيء غير ثابت وغير آمن، فعلينا أن ندرك تمام الإدراك أنّ في وسع الرب أن يحوّل بقوة نعمته ألم عالمنا ومعاناته وفقره إلى نعم وفرح وفيض هبات روحية.
في عيد مجيء المخلص تتوجه أنظار المؤمنين إلى الأرض المقدسة مهد المسيحية، التي تشرفت بأن تكون موطن الرب وحياته وخدمته الأرضية. في هذه الأيام يعيش أتباع المسيح في البلدان التي كانت مسرحًا لأحداث التاريخ المقدس امتحاناتٍ صعبةً ويواجهون أخطارًا جديدة تهدد وجود التقليد الروحي الموغل في القدم. فلنقم في أيام الميلاد المنيرة صلواتنا من أجل إخوتنا، حافظي المقدسات التي لا تقدر بثمن، ورثاء التقاليد النابعة من صدر المسيحية.
“إن كان عضوٌ واحدٌ يتألَّم، فجميع الأعضاء تتألَّم معه” (1كورنثس 12: 26). لا يخص قول الرسول هذا رواد كنيسة واحدة أو جماعة واحدة من مؤمني الكنيسة، بل هو يشمل طبعًا جميع أبناء الكنيسة الواحدة الجامعة الرسولية. إنّ وحدتها لا تكمن في وحدة الإيمان الموروث من الآباء القديسين والشراكة في الأسرار فحسب، بل وفي التعاطف المتبادل في أوقات الشدة، والتضحية في الخدمة المتبادلة، والصلاة التي يقيمها بعض أبنائها من أجل البعض الآخر.
لم تكن السنة المنصرمة يسيرة بالنسبة لكثير من البلدان والشعوب، حيث جاءت حوادث مأساوية وكوارث عديدة امتحانًا لإيماننا وصمودنا. لكن أشد أنواع الابتلاء اليوم ليست تلك التي تمتحننا بما هو مادي، إنما بما هو روحي. فالمخاطر المتعلقة بالجسد تلحق أضرارًا بالأجساد وراحتها. ومع أنّها تزيد حياتنا المادية تعقيدًا، إلا أنها لا تستطيع أن تضر كثيرًا بحياتنا الروحية. فالبعد الروحي هو جوهر التحدي العقائدي الأهم والأكثر جدية لعصرنا. إن هذا التحدي يستهدف قتل الشعور الأخلاقي الذي وضعه الله في نفوسنا. ثمة اليوم من يحاول إقناع الإنسان بأنّه المقياس الوحيد للحق، وأنّ لكلّ شخصٍ حقيقةً خاصة به، وكلّ شخص يحدد بنفسه ما هو خير وما هو شر. وهناك مَن يحاول استبدال الحق الإلهي ـ وبالتالي التمييز بين الخير والشر المبني على هذا الحق ـ باللامبالاة الأخلاقية والإباحية اللتان تدمران نفوس الناس وتفقدانهم الحياة الأبدية. في حين تخرب الكوارث الطبيعية والعمليات العسكرية نظام الحياة الظاهري، تفسد النسبية الأخلاقية ضمير الإنسان وتجعله معاقًا روحيًّا وتشوه نواميس الحياة الإلهية وتخلخل ارتباط المخلوق بالخالق.
علينا أن نواجه هذا الخطر في المقام الأول مستعينين بالعذراء الكلية الطهارة ومجموع القديسين الأبرار لكي يعطونا من خلال شفاعتهم عند عرش “السَّيِّد القدُّوس والحقّ” (رؤيا 6: 10) القوة لمصارعة الخطيئة، مصارعتنا “مع وُلاة العالم على ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشر الروحيّة في السماويات” (أفسس 6: 12). من الأهمية أن نتعلم كشف خدع وأوهام الرفاه الدنيوي في أهوائنا المهلكة، في مطامعنا، في النصوص الترفيهية والسياسية. من المهم أن نسمع دائمًا صوت ضميرنا الذي يحذرنا من مخاطر الخطيئة، وأن نتعلم التوفيق بين أفعالنا والوصايا الإنجيلية.
الآن، كما في السابق، يتعين على كلّ مؤمن مسيحي أن يؤكد بتصرفاته اليومية قيمة الحياة الصالحة وأن يقاوم بصورة واعية نسبية القيم الأخلاقية ونزعة السعي وراء جني المال السريع. هناك حولنا أناس كثيرون ضعفاء ومرضى ووحيدون، كما أنّ كثيرين دفعتهم الصعوبات الاقتصادية إلى مغادرة أوطانهم بحثًا عن الرزق وهم في حاجة إلى عناية، كونهم يعيشون في محيط عدائي أحيانًا. على كلّ كاهن وعلمانيّ أن يشارك في النشاطات الاجتماعية وفي أوجه الخدمة الاجتماعية للكنيسة. إذ قال القديس إينوكنديوس الخيرسوني: “في ضوء المسيح وحده يمكن للمرء أن يرى الله وذاته والعالم في مظهرهم الحقيقي. وبإرشاد من الوحي السماوي وحده يمكن أن يجد طريقا يقوده إلى الحياة الأبدية”.
أولئك الذين يرجون عزاء المسيح، ينبغي علينا أن نشاطرهم دفء هذا العيد وأفراحه. كلٌّ منا يمكنه أن يحمل ضوء نجم بيت لحم إلى أصحابه وغيرهم من زملائه وأصدقائه وأقاربه وجيرانه. في العام الماضي أثمر تعامل الكنيسة مع الهيئات الاجتماعية وأوساط الأعمال في إطلاق مبادرات كثيرة من شأنها أن تعزز التماسك بين الناس وتحيي المبادئ الروحية والأخلاقية المتينة للحياة الاجتماعية.
وإذ أهنئكم بعيد ميلاد المسيح وحلول رأس السنة الجديدة فإنّي أتمنى لكم في صلواتي دوام الفرح في الرب الذي تجسد كي نصير “ورثةً حسب رجاء الحياة الأبدية” (تيطس 3: 7). “وليملأكم إله الرجاء كلَّ سرورٍ وسلامٍ في الإيمان، لتزدادوا في الرجاء بقوة الروح القدس” (رومة 15: 13). آمين.
4%d8%a3%d8%a8%d9%88%d9%86%d8%a7-%d8%a3%d8%ba%d8%a7%d8%a8%d9%8a%d9%88%d8%b3

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *