“بر بحر”.. فيلم متمايز ومتميّز!

مراسل حيفا نت | 21/12/2016

مطانس فرح
قبل تسمّري في مقعدي، وكَيْلا يخيب حِسباني خلال مشاهدتي، صَفّيت ذهني جيّدًا ونفّضت من فكري كلّ ما سمعته مسبّقًا عن فيلم “بر بحر” للمخرجة الخلّاقة (ابنة قرية دير حنّا) ميسلون حمّود؛ فدخلت القاعة في كرملنا الحيفاويّ الأبيّ، نقيَّ الذِّهن، خاليَ البال، مُنتظرًا بدء العرض؛ ومن لحظة بدْئِه لفتني، أبهرني، شدّني وانتزعني من واقعنا “المُجَمَّل” إلى واقع مفصَّل مُثيرٍ للجدل. فيلم جريء، هديد وصنديد، متمايز ومتميّز عن معظم أفلامنا الفِلَسطينيّة؛ يصوّر واقع بعض شابّات وشباب مجتمعنا الفِلَسطينيّ، بكلّ أمانةٍ وصدقٍ من دون تزوير وتلوين للحقائق، بعيدًا عن التّعالي والتّرفّع عن الدّنايا، فيصفعكَ لتصحوَ من حلمك الوهميّ الورديّ بمجتمع “مثاليّ”، ويعيدك إلى واقعنا الحقيقيّ.
يسرد لنا فيلم “بر بحر” اللّافت، قصّة ثلاث شابّات فِلَسطينيّات يعشنَ في “مدينة الخطايا” تل أبيب، بعيدًا عن الأهل والعائلة؛ حيث يتعلّمنَ ويعملنَ ويحلمنَ بغدٍ أفضل، ويبحثنَ عن الحريّة الحقّة..! فيَقدِمنَ على الحياة محتدّاتٍ، كما يحلو لهنّ، محاولات تحقيق ذاتهنّ، دون قيود أو أصفاد، فيتخبّطنَ في مشاكل ما بين الحريّة وتقاليد وتقييدات مجتمعنا العربيّ المُحافِظ.
تجتمع في بيت واحد ثلاث شابّات متناقضات/متطابقات، تبحث كلّ واحدة منهنّ عن السّعادة والحبّ والاستقرار وتحقيق الرّغبات والعيش بحريّة، وفقَ عقائد ورؤى وسلوكيّات مختلفة، فيواجهنَ مشاكلَ تدفعهنّ إلى الامتزاج رغم تباينهنّ.
نور (شادن قنبورة) شابّة مُسلمة مُحجَّبة وقورة، تُقبل على السّكن في شقّة شابّتين متحرّرَتين، متمرّدتين ومُشاكِسَتين: ليلى (منى حوّا) وسلمى (سنا جمالية). فتضطرّ ثلاثتهنّ إلى التّأقلم معًا، رُغم اختلاف نظام حياتهنّ وتغاير تفكيرهنّ.
ضمن أحداث مُثيرة ومُحرِّكة مزجَت بكلّ مِهْنيّة وإتقان بين الحياة الواقعيّة بشكلٍ إنسانيّ/دراميّ وفكاهيّ/كوميديّ، يرتقي فيلم “بر بحر” بالسّينما الفِلَسطينيّة فيشلح التابوات والمحرّمات المجتمعيّة جانبًا، ليلفظ واقعًا حياتيًّا جديدًا، ويسلّط الأضواء على جيل جديد من الفِلَسطينيّات والفِلَسطينيّين، تجهله غالبيّة أفراد مجتمعنا.
توهّجت كالّلآلئ نجمات الفيلم الثّلاث، وجسّدت كلّ واحدة منهنّ دورها بكلّ حِرْفيّة ومِهْنيّة وانسيابيّة من دون تكلّفٍ بادٍ للعيان.
لعبت النّجمة منى حوّا دورَ ليلى؛ الشّابة الفِلَسطينيّة الأكاديميّة، المحامية المتحرّرة والواثقة في آنٍ واحد.. تعيش حياتها كما يحلو لها، من دون رقيبٍ أو حسيب. تعيش حياةً شبابيّةً ضاجّة صاخبة، فتلبس ما تراه مناسبًا، وتشرب الكحول وتدخّن سجائر القنب (الماريجوانا) وتمارس الجنس وتسهر حتّى الصّباح. و…
أمّا النّجمة سنا جمالية فأدّت دورَ سلمى؛ شابة مِثليّة الجنس، متمرّدة. تعيش الحياة الليليّة وتعمل في إحدى حانات تل أبيب. وعلى غرار صديقتها ليلى، تشرب الكحول، أيضًا، وتدخّن سجائر القنب. تقع سلمى في حبّ شابّة أكاديميّة، وتحلم بالارتباط بها. و…
هذا وقامت النّجمة شادن قنبورة بدور نور؛ شابّة مُسلمة مُحجَّبة مُتعبّدة، تقصد تل أبيب لهدف الدّراسة الجامعيّة، لتحلّ بشقّة الشّابتين، عِوَضًا عن قريبة لها. وبخلاف زميلتيها تعكف نور على الصّلاة وتنكبّ على الدّراسة، فتحاول رُغم كلّ الإغراءات والإثارات أن تلتزم بتعاليم دينها، إلى أن…
لا أريد بمقالي هذا أن أسرد لكم أحداث الفيلم، كي لا “أحرقه” وأنتزع منكم متعة الشّوق والتّوق لمشاهدته..
نجحت كاتبة السّيناريو والمخرجة الشّابة ميسلون حمّود، في فيلمها الأوّل الطّويل “بر بحر”، أن تخرج عن الدّارج لتدمغ العملَ ببصمة فنيّة خاصّة، حطّمت بها التابوات المتعارف عليها وكشفت تناقضات وتخبّطات مجتمعنا الفِلَسطينيّ، واستطاعت أن تميط اللّثام عن مجتمعنا العربيّ لينكشف ويظهر على حقيقته، بحلوه ومرّه، بمناقبه ومثالبه، دون التّستّر وراء أقنعة زائفة، هربًا وخوفًا من..
فيلم “بر بحر” أنثويّ بامتياز.. يدعو إلى التّحرّر من العبوديّة الذّكوريّة والأفكار المسبّقة لشبابنا؛ يدافع عن المرأة وحريّتها وكرامتها وحقّها في رسم حياتها وتقرير مصيرها؛ ويكشف لنا مدى الانسجام والتّوافق بين المسيحيّة والإسلام طالما تجمعنا الرّوابط الإنسانيّة.
يحاكينا الفيلم ويؤثّر في كلّ فردٍ منّا، فهو يتطرّق – بشكل جريء وصريح لبعضنا، ومُفاجئ ومُستهجَن لبعضنا الآخر – إلى المثليّة الجنسيّة المنتشرة في أواسط شابّات وشباب مجتمعنا، إلى التّمرّد، إلى الحريّة المُفرطة، إلى الاستقلاليّة، إلى العلاقات الجنسيّة، إلى الثّمول، إلى المخدّرات، إلى.. وإلى.. يتطرّق إلى جيل فِلَسطينيّ جديد يجهله كثيرون!
على بساط أحمديّ يسَع كلّ مَن يجلس عليه، استطاعت كاتبة السّيناريو والمخرجة ميسلون حمّود، أن تصرخَ وتعرض قضايا مجتمعنا الحياتيّة اليوميّة الشّائكة و”المحرّمة”، بكلّ جماليّة فنيّة وإبداع وتقنيّة ومِهْنيّة، بدلَ أن تصمت وتكنس هذه المحرّمات تحت هذا البساط؛ لتنقل لنا بشكل غير تقليديّ، صورةً واقعيّة مغايرة لمجتمعنا، ضمن عمل سينمائيّ شبابيّ فنيّ جديد، توافرت فيه كافّة عوامل النّجاح، من سيناريو وإخراج وتمثيل وتصوير ومونتاج وموسيقى.
ولا لَبْس بأنّ فيلم “بر بحر” سيسجّل تغييرًا ونقلةً نوعيّة في صناعة السّينما الفِلَسطينيّة، ستمكّن المشاهد التعرّفَ إلى مجتمعنا الفِلَسطينيّ بصورة مناقضة قد تصدمه بدايةً، لكنّه سرعان ما يستفيق من سُكرة صدمته، ليكتشف شرائح من مجتمع فِلَسطينيّ كان يجهلها أو حاول تهميشها(!)؛ فيلم جدير بالمشاهدة.
أذكّر بأنّ فيلم “بر بحر” كان قد شارك في عدد من المِهرجانات السّينمائيّة الدّوليّة وحصد عدّة جوائز هامّة، من بينها ثلاث جوائز في مِهرجان “سان سبستيان” الإسپانيّ: حيث نالَ لقبَ لجنة تحكيم “أوترا ميرادا” (أي نظرة أخرى)، الّتي تقدّمها شبكات التّلفزة الإسپانيّة؛ وجائزة “إيروسكي” للشّباب الّتي تُمنح لأفضل مخرج جديد؛ ولقب “سيباستيان”. كما حصد الفيلم جائزة أفضل فيلم آسيويّ في مِهرجان “تورنتو” الأخير.
وكان الفيلم قد شارك في مِهرجان حيفا السّينمائي الدّوليّ، في شهر تشرين الأوّل/أكتوبر المنصرم، وفاز بثلاث جوائز: جائزة أفضل فيلم أوّل، جائزة الجمهور، وجائزة خاصّة لبطلات الفيلم الثّلاث.
هذا وفي الخامس من شهر كانون الثّاني القادم (2017/1/5)، ستُسنح الفرصة للجميع بمشاهدة الفيلم، حيث سيتمّ عرضه في عدد من دور السّينما بالبلاد.
* “بر بحر” – بطولة: منى حوّا، شادن قنبورة، سنا جمالية، محمود شلبي، هنري اِندراوس، سمر قبطي، أحلام كنعان، سهيل حدّاد، إياد شيتي، أيمن ضو، أمير خوري، خولة حاج – دبسي، فراس نصّار، رياض سليمان وتامر نفّار، وآخرون. سيناريو وإخراج: ميسلون حمّود. تصوير: إيتاي چروس. مونتاج موسيقيّ: نيل چيبس. إنتاج: شلومي اِلكبيتس.
كلّ الاحترام.. شاپو.
(من اليمين: سنا جمالية، شادن قنبورة، ميسلون حمّود وأحلام كنعان – تصوير: وائل عوض)dsc_9792

dsc_9794

dsc_9797

dsc_9802

dsc_9805

dsc_9808

dsc_9812

dsc_9814

dsc_9815

dsc_9818

dsc_9821

dsc_9825

%d8%a8%d8%b1-%d8%a8%d8%ad%d8%b1-%d9%86%d8%ac%d9%85%d8%a7%d8%aa

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *