بين “تخاريف العرب” وبين … شكسبير!

مراسل حيفا نت | 09/10/2016

بين “تخاريف العرب” وبين … شكسبير!
د. منعم حدّاد
عندما يحاول أي امرئ أن يقارن بين الأدب العربي القديم، بحكاياته وأساطيره وخرافاته وأخباره التي يصعب أحياناً تصديقها وبين ما يُعتبر من روائع الأدب العالمي، كمسرحيات شكسبير مثلاً، يجنّ جنون بعض “المثقفين المتفرنجين والمتمدرنين” ويرفضون هذه المقارنة، لأن الأدب العربي القديم مجرّد “تخاريف” بدائية في زعمهم، أما وليم شكسبير فهو “الشاعر والكاتب الإنجليزي الذي يُصَنَّف كأعظم كاتب في اللغة الإنجليزية، وأعظم كاتب مسرحي على مستوى العالم، وكثيراً ما كان يعتبر الشاعر الوطني لإنجلترا”، كما ويعدّ “من أبرز الشخصيات في الأدب العالمي إن لم يكن أبرزها على الإطلاق” (ويكيبيديا) وشتّان بين شكسبير الذي في الثريا و”تخاريف” الأدب العربي القديم التي في الثرى، كما يخيّل لهؤلاء!
ولا يمنع هذا أن يكون بين الاثنين شبه كبير، ونحن لا نزعم أن شكسبير قد تأثّر بالأدب العربي القديم، جرياً على ما “اكتشفه” بعبقريته في حينه العقيد القذافي عندما قال إن شكسبير ينحدر من أصل عربي واسمه الشيخ زبير، كما روى لنا أحد الذين يعتبرون أنفسهم من “وجوه بلادنا البارزة جداً وعلى مستوى عالمي”، والذي “نال شرف” زيارة ليبيا ولقاء العقيد في حينه، لكننا نقول إن الناس وإزاء ما يواجههم في حياتهم وفي ظروف متشابهة أو متطابقة تتشابه إلى حدّ بعيد ردود أفعالهم رغم أنهم يعيشون في أزمنة متباينة وأمكنة مختلفة!
ومن الفرضيات الأساسية في الدراسات الفولكلورية البحث عن المشترك بين بني البشر أيّاً كانوا، فالناس يتشابهون في ردود أفعالهم المتكررة، مهما اختلفت وتباينت أعراقهم وأجناسهم وأزمانهم وأماكنهم، وقد نجد شبهاً حيث لم نفكّر أن نجده، فالجائع يبحث عن الخبز، والمريض يبحث عن الشفاء، بغضّ النظر عن العرق والشعب والجنس والدين واللون الذي ينتمي إليها، وعن المكان والزمان اللذين يعيش فيهما.
* * *
ففي المشهد الأول من الفصل الرابع من مسرحية مكبث، المعتبرة من أفضل وأعظم ما كتبه شكسبير (ترجمة خليل مطران، صفحة 86) يقول “طائف” (طيف) لمكبث:”… كن جريئاً رابط الجأش، فاقد الرحمة، فلن يستطيع حيّ وضعته أنثى أن يضرّ بمكبث”! فيا لها من “نبوءة” مطمئنة وتوحي بالخلود!
و”يطمئن” مكبث نفسه وهو يخاطب أتباعه فيقول:” …فما أنا بخائف ضَيراً،… أو أخشى الفتى الناعم الأظفار ملكولم؟ ألم تلده امرأة؟ ألم تقل لي الأرواح العليمة بالغيب “لا تخف يا مكبث شيئاً؟ ما من رجل ولدته امرأة يستطيع إيذائك”(صفحة 104).
ألا “تنبئ” هذه “النبوءة” بالخلود؟ فهل ثمّ ما أو من يخيف من تُوَجَّه له هذه “النبوءة”؟
فهل يوجد إنسان من لحم ودم لم تلده امرأة؟ إذن لم الخوف ووجود إنسان “لم تلده امرأة” مستحيل للوهلة الأولى؟
وتندرج هذه “النبوءة” وأمثالها تحت إطار الكلام المبهم، ذي المعاني المتعددة، والذي يجد كل واحد فيه ما يشاء، أو ضمن التبصير والتكهن بالغيب دونما أيّ علاقة بالحقيقة والواقع!
ولو كان المبصّرون والعرّافون والبرّاجون يعلمون بالغيب، لفازوا بما لم يفز ولن يفوز به سواهم، ولأصبحوا في عداد الأنبياء، وخسئ من يحسب نفسه منهم أنّه نبيّ!
وعندما تقع أحداث لم تكن في حسبان مكبث وأعوانه، سرعان ما تعيد مكبث إلى صوابه ورشده، فيستدرك قائلاً: “أخذ يدور في خلدي أن الشيطان خدعني بالألفاظ الملتبسة، وكذب عليّ بما قاله، على كونه إنما قال صدقاً”!
ويشعر مكبث أن النهاية قد اقتربت، فيزداد يأساً وبالتالي بأساً، فيهتف متحدّياً:”…أين ذلك الذي لم تضعه امرأة، هو دون سواه من أهابه الآن وأخشاه”(ص. 108-109)
ويأتي مكدف ويقاتل مكبث، فيسخر منه مكبث:”اذهب وحارب غيري ممّن تمسّ جسومهم، أما جسمي ففي حماية رُقية سحرية، لا يحلّها إلا رجل لم تضعه امرأة”(ص. 110)
فيفاجئه مكدف بقوله: “أنا ذلك الرجل، دع همّ رقيتك السحرية واعلم أن مكدف نُزع من بطن أمّه نزعاً، ولم تضعه أمّه وضعاً”(ص. 110)
وتدور الدائرة على مكبث، وينتهي كل شيء!
* * *
ونجد لدى شعوب عديدة مثل هذه “النبوءات” المبهمة، أو المضللة، أو المطمئنة آنيّاً والأمثلة كثيرة.
وتروي نبيلة إبراهيم في كتابها “الدراسات الشعبية بين النظرية والتطبيق”(ص.91-92) أنّ كسرى رأى في المنام أن “ارتجس إيوان كسرى، وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وخمدت نيران فارس، ولم تكن خمدت قبل ذلك بألف عام، وغارت بحيرة ساوة… وفي الغد ورد عليه كتاب بخمود النار”، فكتب كسرى إلى النعمان بن المنذر، أن يوجه إليه من يفسّر له الرؤيا، “فوجّه إليه عبد المسيح بن نفيلة الغساني”، فلم يفلح في التفسير، فسافر إلى خاله سطيح، في مشارف الشام، فوجده يحتضر…، ففتح سطيح عينيه وقال:
“عبد المسيح على جمل مشيح، أتى إلى سطيح، أوفى على الضريح، بعثك ملك بني ساسان، لارتجاس الإيوان، وخمود النيران،…، يا عبد المسيح، إذا…غاصت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، فليس الشام لسطيح شاماً، ولا بابل للفرس مقاماً، يملك منهم ملوك وملكات بعدد الشرفات، وكلّ ما هو آت آت…”
ولما سمع كسرى هذا “التفسير” هدأ روعه وقال: إلى أن يملك منّا أربعة عشر ملكاً يكون أمر!” ظانّاً أنهم سيملكون عشرات وربما مئات السنين، بينما ملك منهم عشرة ملوك في أربع سنين فقط!
فتفسير سطيح كنبوءة “الطيف” يحتمل التأويل على أكثر من وجه، يطمئن في ظاهره، ويحمل في باطنه كلاماً آخر، مختلفاً تماماً!
فهذا الموتيف الذي خلّده شكسبير، سبقه العرب في تخليده بعدة قرون!unnamed-4

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *