من كان منكم بلا خطيئة؟!

مراسل حيفا نت | 15/09/2016

جواد بولس
أجلس في مكتبي وأحاول ترتيب جدول ما بقي علي من مهام في ذلك النهار. دخل صديقي حمّاد بوجه متجهم. لم يتخذ مقعدًا وسألني إذا كنت أود مرافقتهم لحضور جنازة “أبو بطرس” مضيفًا: “إنه من جماعتكم وقد توفي اليوم فجأة. لقد كان إنسانًا رائعًا. يعيش مع زوجته بعد أن هاجر أولاده، إبّان الانتفاضة الثّانية”. طلبت منه أن يشرب معي القهوة، فأنا الآن لا أستطيع أن أرافقهم، مع أنّني تذكّرت بطرس حين دافعت عنه ورفيقه حماد في تلك السنوات الغابرة من النضال.
خرج صديقي لغمّه، وبقيت في مكتبي لهمّي. فقرأت نص مقابلة نشرتها وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينيّة “وفا” في السّابع من أيلول الجاري، مع اللواء جبريل الرجوب، نائب أمين سر حركة ” فتح” ورئيس اتّحاد كرة القدم الفلسطيني، يصرّح فيها على أنّه يرى بالمسيحيين ملح الأرض، وأنّهم يشكّلون مكوّنًا أساسيًا من النسيج الوطني الفلسطيني، فهم متواجدون في فلسطين قبل الإسلام ولقد وقفوا مع فلسطين، وحافظوا على فلسطينيّتهم وعروبتهم، مضيفًا: “إذا ما أشعرني أي رجل دين مسيحي أنّي أخطأت فليس لديّ مشكلة من تقديم اعتذاري”، فيما يشبه الرّد من طرفه، هكذا فهمت، على من طالبه بضرورة الاعتذار عن تصريح مضرّ له جاء في مقابلة أعطاها في الثالث من أيلول الجاري لإحدى الفضائيّات المصريّة، وأعادتها فضائيّة فلسطين بدون حساسيّة منها لنعته من صوّت من المسيحيين في الانتخابات الفلسطينيّة السّابقة لحركة “حماس” على أنّهم “مجموعة الميري كريسماس”. ومع أنّ كثيرين أصرّوا على أنّ الرجوب لم يعتذر صراحةً من المسيحيين الذين شعروا بالإهانة إلّا أنّ ما قاله لوكالة “وفا” بحق المسيحيّين الفلسطينيّين يعكس، برأيي، رؤيةً شاملة إزاء الوجود المسيحي المشرقي من وجهة نظر تاريخيّة مُنصفة ووطنيّة صادقة على حد سواء.
شخصيًا لم أشعر بإهانة من تصريح الرجوب للفضائية المصرية، وسآتي على ذكر أسباب موقفي هذا، لكنّني أتفهّم كل من شعر بتلك الإهانة، ولا فرق عندي إن كانوا يعرفون شخصيّته عن قرب، أو أنّهم يجهلون تاريخ الرجل على ما يطويه من بياض ناصع يقق، أو رماديّة ملتبسة استجلبت من البعض سهام الانتقاد عليه والتجريح الدامي أحيانًا.
حاولت أن أستفهم من خلال بعض الاتصالات كيف ولماذا بدأت تأخذ قضيّة ذلك التصريح “الرجوبي” تلك الأبعاد الخياليّة، في حين مرّت قبله في قرانا وبلداتنا، عشرات المواقف الأخطر والتّصاريح الأدهى عندما قيلت بحق المسيحيّة والمسيحيين ومن دون أن تستدرج ذلك الهرج وتلك الهجمة المتصاعدة أو حتّى انتقادًا متواضعًا، فمثلًا حين منعت، ببعض القرى، بفتاوى ملزمة مشاركة المسلم بجنازة المسيحي لم تقم القيامة ولا صرخت قيادة، وحين أفتى من أفتى بتحريم مشاركة المسيحي أعياده سكتت العامّة وتململت الخاصة وحين وحين.. والشّواهد في قرانا موجعة وكثيرة، فلماذا في قضيّة الرجوب تحديدًا؟
هممت لترك مكتبي، لكن موظّفتي أخبرتني أنّ أم حسن جاءت من بعيد، وتريد مقابلتي لبضع دقائق، فاستأذنت إدخالها. جلست أمامي بثوبها المطرّز السّاحر، ولمّت شعرها بمنديل أبيض. مدّت كفّها إلى فوق، سمراء كالأرض، ومتعبة مثل الفجر في قريتها، وقالت: “طنيب عليك يا بنيّي، موكّلتك بحسن بدي تروّحلي إيّاه على العيد، مليش غيرو”. سكتت وسكتُّ، فما نفع الحديث بعد هذا البيان؟ بدأت أفكر بما سأقوله لها، لكن رفيقتها التي دخلت معها وجلست قبالتي رفعت رأسها بصمت وبصوت هادئ لا يخرج إلّا من حناجر أمّهات يذبن من الحب. قالت: “الله يخليك يا أستاذ جايينك من آخر المعمورة وأيدينا بزنّارك، قالولنا إنّو بِطْلع بإيدك تروّح حسن. مع انك نصراني بس احنا بنثق فيك”. قالتها بانسياب وبصدق كالطّبيعة. ضحكتُ. وعدتهما بالخير وودعتهما. مضيت لأطوي ما تبقى من وجع.
لقد عرفت جبريل منذ مطلع الثّمانينيّات ورافقته محاميًا لسنين طويلة كنت شاهدًا فيها على حياة واحد من رموز النضال الفلسطيني، خاصّةً وهو يقود مع رفاقه في الحركة الأسيرة الفلسطينية أشرس المعارك دفاعًا عن الحق الفلسطيني والكرامة والعزة، وعرفته بعد تحرّره وبعد أن قضى عشرين عامًا في الأسر صديقًا وقائدًا فتحاويًا فلسطينيًا عنده من الأحبّاء والمؤيدين وفرة، وله من الأعداء والمقرّعين وفرات؛ لكنّني وبعيدًا عن هذه الفضاءات اؤكّد أنّه أطلق تصريحه بحق بعض المسيحيّين، وهو بحسب جميع المقاييس لم يكن موفقًا، من غير قصد بالإهانة المتعمّدة للمسيحيّة والمسيحيّين ولا بتأثير طائفيّة بغيضة هو بريء منها.
تابعت تداعيات ما أضحت تسمى “أزمة الرجوب” فوجدت كثيرين ممّن تحفّظوا أو انتقدوا أو هاجموا الرّجوب قد فعلوا ذلك بمشاعر صادقة وبمواقف إنسانيّة وطنيّة محقّة، لكن كثيرين ممّن انقضّوا عليه قد استغلّوا تصريحه كي يمارسوا حروبهم السياسيّة ومناطحاتهم الفئويّة بانتهازيّة مفضوحة، وينقلوها إلى ميدان استجلب فورانًا عاطفيًا عند كثيرين، مسيحيّين وعلمانيّين، يعانون وبحق من أسى واقع مقيت ورهيب؛ فمن خلال تأجيج هؤلاء لنار مستعرة أصلًا في شرقنا وبيننا، أخذوا يطلقون رماحهم على الرجوب الأوسلويّ تارةً، والمطبّع حينًا والمنسّق الأمني أحيانًا، وبعضهم قفز على ظهر المسيحيّين ليصل إلى أصحاب الرجوب في القيادة الفلسطينيّة والرئيس “أبو مازن” والفتحاويّين “الانهزاميّين”، وطفقوا يطلقون السّهام والشّعارات في محاولة لكسب جولة المقارعات المفتعلة بقضية لا شأن لها في هذه الحروب لا من بعيد ولا من قريب، حتى أنّنا وجدنا بعض الطّائفيّين المعروفين أو من يؤمنون بالإلحاد دينًا وطريقًا يهاجمون الرّجوب باسم الدفاع عن المسيحيّة المضطهدة والمسيحيّين المساكين، وباسمها عن الوطنيّة والوطن.
لو لم يحمل ذلك المشهد عناوين المأساة كما يعيشها المسيحيّون المشرقيّون بشكل عام والفلسطينيّون أيضًا منذ سنين، ولو لم تنثر تلك الرّياح بذور الخسارة والهزائم المقبلة لما تطرّقنا إليها مُطلقًا؛ لكنّني رصدت ما استنفرته “الزّلة” الرجوبيّة ليس في معرض الدفاع عن صاحبها، بل لأنّني أرى أنّ معظم من انتقدوا تصريح الرّجوب لم يقصدوا ولم ينجحوا بسبر قلب القضيّة الأساسيّة ولم يفكّكوا لغز المشكلة المؤرّقة، وقد كشفتها، ربما بصورة عرضيّة في حالتنا، جملة يتيمة انفلتت بتلقائيّة وبأسلوب تقليدي يعرف به الرّجوب – ولا يخلو من فظاظة – قالها هنا من دون أن يقصد الإساءة، ولا المزاح كما افترض بعض المحلّلين والأصدقاء.
القصّة تبدأ وتنتهي في أنّنا نعيش في عصر يكون القول الفصل فيه للدّين ولمن يقف على رقبته وباسمه يأمر وينهى، يحرم ويحلّل. لن أفصل في مقالتي كيف نجح الدين في التحكّم بجميع خلايا مجتمعاتنا البشريّة (المسلمة، والمسيحيّة والدرزيّة) واستوطنت زفراته في كل مسامات أجسادنا، وذلك من قبل أن يولد الوليد وحتى مماته ودفنه وقبره وما بعد ذلك من فروض ومحرّمات وتوابع.
الهيمنة للأقوى وللأكبر، والفضاء لمن سيطر على مفاصل الإنشاء والإنماء والتّثقيف والتّسمين. الدين هو المحرّك الأساسي في حياة الفلسطينيّين، وكل ما يفعلونه ويقولونه هو من ثمار هذا الواقع وبروح من ضبط مفاصله وإيقاعه، فصاحبي حماد يدعوني للمشاركة في جنازة واحد من “جماعتي” ، وأم حسن تقصدني على الرّغم من أنّهم قالوا لها إنّي “نصراني”، وجبريل لا يقصد الإساءة “لجماعة الميري كريسماس”، كلهم يتصرّفون بشكل “طبيعي” والكارثة هي في “الطبيعي”، وليس بكون جميع تلك التّجلّيات – وهي غيض من فيض ونقطة في بحور- شواذ واستثناءات.
إنّه عصر التديّن والتّطيّف والتمذهب، فعندما يصبح الدين سلعة رائجة في الأسواق يتسوق الحاضرون وفق قوانين البيع والشّراء، وتبقى الملامة على من فرط بمفاتيح “الوكالة”، وانبرى وراء دكّانه والمصلحة. إنّها ثقافة طردت ما كان مقبولًا وشائعًا فسادت وطغت والأكثريّة شاهدت وانحنت.
واليوم ترانا نسمع من يكتفون، بعد كل عثرة أو غزة أو غزوة، بالنداء إلى عقد مهرجانات التّسامح ومؤتمرات العيش المشترك، أو من يطلقون كليشيهات السّعادة المُعلّبة فيصبح “المسيحيّون ضروريين للنسيج الوطني السّليم”، و”المسيحيّون أخوة للمسلمين في السّراء والضّراء وفي التّضحيات وفي الوفاء”، و”المسيحيّون أبناء لهذه الأرض وهم من حافظوا على سمرتها وسرتها”.. هكذا بدأت الحكاية بالمسايرة، وتنتهي بالمسايرة، فهذه شواهد على زمن ولّى وأصوات من عوالم وتلفظ أنفاسها قبل الانقراض، ومخلّفات مجتمعات كانت تعيش قدسيّة احترام الآخر وتصون حرمة التعدّد الثّقافي حين كان العلماني راوية القرية والشّاعر فارسها والمعلّم رسولًا، وكان فيها الشّيخ والخوري يدعوان البشر للخير والمحبّة والألفة، فهما تربّيا أيضًا في فضاءات كان فيها الدّين لله والوطن للجميع والصلاة وسيلة فرديّة تصل من تاه برحم الحياة.
لم أشعر بإهانة ممّا قاله جبريل، لأنّ القضيّة رهينة في رقبة مجتمع كامل وجميع مَن وقف على ذلك المنزلق وتهادن أو ساعد أو سكت عن الكبيرة الكبيرة؛ فمن كان منكم بلا خطيئة فليرمِ حمادًا وأم حسن بذلك الحجر!
035

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *